شبهات عقائديةشبهات وردود

إثبات حقيقة الصراط ورد شبهات من أنكرها

دراسة الأحاديث الواردة في “الصراط” وما جاء في وصفه

وموقف المعتزلة والعقلانيين منها

(إثبات حقيقة الصراط ورد شبهات من أنكرها)

المقدمة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يتميز القرنُ الثامنَ عشرَ بظهور روح الشك العام في كل شيء تقريبًا، ومع ذلك فقد ظهرت فلسفات متنوعة، يدور محورها حول كلمتين، هما في الواقع صنمان استحدثهما الهاربون من الحقيقة، وهما: “العقل والطبيعة”.

أما العقل، فهو الحَكَم الوحيد، والعقل هو كل شيء، وما عداه فوَهمٌ وخُرافة، الوحي يخالف العقلَ فهو أسطورة كاذبة، والمعجزات لا تتفق ومألوفَ العقل فهي خرافات بالية ومرذولة؛ لأنها لا تتسق مع العقل.

المعتزلة في القديم والعقلانيون في الجديد حكَّمُوا العقل، وجعلوه الأصل والفيصل، وقدموا العقل على الشرع والنصوصِ من الكتاب والسنَّة، كذلك العصرانيون اليوم، مثلاً بمثل، سواءً بسواء.

أما المعتزلة، فأنكروا صحيح السنَّة النبوية، وأخضعوا نصوص السنة لعقولهم، وقسَّموا السنة إلى آحادٍ ومتواتر من حيث الحجِّية والاستدلال.

وكذلك عصرانية اليوم قسموا السنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية.

كذلك تطاول المعتزلةُ على حملة السنَّة من الصحابة الكرام والسلف الصالح من التابعين ومَنْ بعدهم من نُقاد الحديث بالطعن والسَّب، ورميِهم بالسَّفَه وقلة العقل، بل بالهوى والكذب.

ومن الأحاديث الصحيحة التي أنكرها المعتزلة والعقلانيون والعصرانيون1 ما ورد في الصراط أو الجسر الممدود على متن جهنم، لا سيما تلك الأحاديث التي جاء فيها أنه أدقُّ من الشعر، وأحدُّ من السيف.

اخترتُ دراسة هذا الموضوع؛ لأن هذه المسألة من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، والإيمانُ به واجبٌ بالإجماع؛ كما صرح به الأئمة.

لذا؛ فإن الدفاع عن هذا الأصل الاعتقادي وغيره من الأصول واجبٌ شرعي على كل من نوَّر اللهُ بالحق بصيرتَه، وطهَّر من دنَس الجهل والتعصب والهوى سريرتَه.

قال الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله –2: “وقد كان السلف الطيب يشتد نكيرُهم وغضبهم على من عارض حديثَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – برأي، أو قياس، أو استحسان، كائنًا من كان، ويَهجرون فاعل ذلك، ويُنكرون على من يضرب له الأمثال، ولا يسوِّغون غيرَ الانقياد له – صلى الله عليه وسلم – والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر بقلوبهم التوقفُ في قَبوله حتى يشهد له عمل، أو قياس، أو يوافق قولَ فلان وفلان…”؛ اهـ.

وقال – رحمه الله – أيضًا3: “ومن أحالك على غير “أخبرنا” و”حدثنا” فقد أحالك: إما على خيال صوفي، أو قياس فلسفي، أو رأي نفسي، فليس بعد “القرآن” و”أخبرنا” و”حدثنا” إلا شبهاتُ المتكلمين، وآراءُ المنحرفين، وخيالات المتصوفين، وقياس المتفلسفين، ومَن فارَق الدليل، ضلَّ عن سواء السبيل، ولا دليلَ إلى الله والجنة، سوى الكتاب والسنَّة، وكل طريق لم يصحبْها دليلُ القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم، والشيطان الرجيم، والعلم ما قام عليه الدليلُ، والنافع منه: ما جاء به الرسولُ – صلى الله عليه وسلم”؛ اهـ.

وقسمت مادة هذا البحث إلى هذه العناصر:

  1.  نص الحديث الذي ورد فيه ذِكر الصراط وأوصافه، مع الإشارة بالخط تحته في موضع الشاهد منه.
  2.  تخريج الحديث.
  3.  درجة الحديث.
  4.  شواهد الحديث، وبيان درجتها على ضوء أقوال أئمة الحديث عبر العصور دون تقيد.
  5.  بيان عقيدة أهل السنَّة والجماعة في الصراط.
  6.  ذِكر من أنكر الصراط وأوصافه من الفِرَق، مع بيان أدلتهم وشبهاتهم في ذلك.
  7.  الرد على الشبهات التي ذكروها حول الصراط على ضوء أقوال أئمة السلف الصالح من أهل السنَّة والجماعة.
  8.  والخاتمة فيها أهم النتائج المحصلة من البحث.

هذا، وأسأل الله – تعالى – أن يرزقَني الإخلاصَ في الأعمال كلها، والثباتَ على السنَّة والحق؛ إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.

نص الحديث الوارد في “الصراط”، تخريجه وشواهده

عن سويد بن سعيد، قال: حدثني حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: أن ناسًا في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربَّنا يوم القيامة، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((نعم))، قال: ((هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحْوًا ليس معها سحابٌ؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحْوًا ليس فيها سحاب؟))، قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((ما تضارون في رؤية الله – تبارك وتعالى – يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذَّن مؤذِّن: لِيَتْبَعْ كلُّ أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحدٌ كان يعبد غيرَ الله – سبحانه – من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبقَ إلا من كان يعبد اللهَ من بَرٍّ وفاجر وغُبَّرِ أهل الكتاب، فيُدْعى اليهودُ، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيرَ ابنَ الله، فيقال: كذبتم، ما اتخذ اللهُ من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطِشنا يا ربنا؛ فاسْقِنا، فيشار إليهم: ألا تَرِدُون؟ فيُحشرون إلى النار كأنها سرابٌ يَحطِم بعضُها بعضًا، فيتساقطون في النار، ثم يُدعى النصارى، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيحَ ابنَ الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ اللهُ من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطِشنا يا ربنا؛ فاسقنا، قال: فيشار إليهم: ألا تَرِدُون؟ فيُحشرون إلى جهنم كأنها سراب يَحطِم بعضُها بعضًا، فيتساقطون في النار، حتى إذا لم يبقَ إلا من كان يعبد اللهَ – تعالى – من بَرٍّ وفاجر، أتاهم ربُّ العالمين – سبحانه وتعالى – في أدنى صورةٍ من التي رأَوْه فيها.قال: فما تنتظرون؟ تَتْبَعُ كلُّ أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا، فارَقْنا الناسَ في الدنيا أفقرَ ما كنا إليهم ولم نصاحبْهم، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشركُ بالله شيئًا – مرتين أو ثلاثًا – حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آيةٌ فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيُكشَف عن ساقٍ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذِن اللهُ له بالسجود، ولا يبقى مَن كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل اللهُ ظهْره طبقةً واحدةً، كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل في صورته التي رأَوْه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، ثم يُضرَب الجسرُ على جهنم، وتحل الشفاعةُ: ويقولون: اللهم سلِّم سلِّمْ))، قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: ((دحْضٌ مَزِلَّةٌ، فيه خطاطيفُ وكلاليب وحَسَك تكون بنجدٍ، فيها شويكة يقال لها: السَّعدان، فيمر المؤمنون كطرْف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويدِ الخيل والرِّكاب؛ فناجٍ مسَلَّمٌ، ومخدوشٌ مرسَل، ومكدوسٌ في نار جهنم….)) الحديث بطوله.

وقال مسلم: وزاد أبو سعيد: “بلغني أن الجسرَ أدقُّ من الشعرة، وأحدُّ من السيف”.

وهذا لفظ مسلم أخرجه في “صحيحه” في الإيمان (باب: معرفة طريق الرؤية) (3/36 – نووي).

وأخرجه البخاري4 من غير هذه الزيادة من طريق يحيى بن بُكير، عن الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، بلفظ: ((… ثم يُؤتَى بالجسر، فيُجعَل بين ظهريْ جهنم))، قلنا: يا رسولَ الله، وما الجسر؟ قال: ((مدحضة مزِلَّةٌ، عليه خطاطيف وكلاليب وحَسكة مُفَلطحة، لها شوكة عُقَيْفَاءُ تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمنُ عليها كالطَّرْف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والرِّكاب، فناجٍ مسَلَّم، وناجٍ مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمرَّ آخرُهم يُسْحَب سحبًا…)) الحديث مطوَّلاً.

وأخرج الحديث بدون هذه الزيادة أيضًا:

أبو عوانة في مسنده (320) من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم به، والطيالسي في مسنده (1/289/2179) من طريق أبي داود عن خارجة بن مصعب الضبعي، عن زيد بن أسلم – كلاهما مطولاً – نحوه.

ولهذا الحديث شواهد أخرى:

1 – حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت:

قلتُ: يا رسول الله، هل يذكر الحبيبُ حبيبه يوم القيامة؟ قال: ((يا عائشة، أما عند ثلاث، فلا، أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف، فلا، وأما عند تطاير الكتب، فإما أن يُعطى بيمينه أو يُعطى بشماله، فلا، وحين يخرج عنقٌ من النار فينطوي عليهم ويتغيَّظ عليهم، ويقول ذلك العُنق: وكِّلت بثلاثة، وكلت بثلاثة: وكِّلت بمن ادَّعى مع الله إلهًا آخر، ووكِّلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكِّلت بكل جبار عنيد، قال: فينطوي عليهم، ويرمي بهم في غمرات، ولجهنم جِسرٌ أدقُّ من الشعر، وأحدُّ من السيف، عليه كلاليبُ وحَسَك، يأخذون من شاء الله، والناس عليه كالطَّرْف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، والملائكة يقولون: ربِّ سلِّم، رب سلِّم؛ فناجٍ مسَلَّم، ومخدوش مسَلَّم، ومُكوَّر في النار على وجهه)).

أخرجه أحمد (6/110) عن يحيى بن إسحاق، عن ابن لَهيعة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعًا.

وسنده ضعيف؛ فيه ابن لَهيعة قد تفرد به، وبقية رجاله ثقاتٌ كما قال الهيثمي في “المجمع” (10/358)، وضعَّف إسنادَه أيضًا البيهقيُّ في “الشُّعب” 5.

وأبو داود في “سننه” (4757) من طريق يعقوب بن إبراهيم وحميد بن مسعدة، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس، عن الحسن، عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعًا نحوه مختصرًا.

والحسن – هو البصري – مدلِّس كثيرُ التدليس؛ كما قال العلائي في “جامع التحصيل” (ص 194) ؛ وإن صح ما حكاه عن الحسن أنه سمع من عائشة – رضي الله عنها – فلا يفيد مع العنعنة6.

وضعَّفه الشيخ الألباني في “ضعيف أبي داود” (4755)، و”ضعيف الترغيب” (2108).

2 – عن ابن مسعود – رضي الله عنه – موقوفًا:

والصراط كحد السيف، دحْض مزلَّة…” مطولاً.

أخرجه الطبراني في “الكبير” (9/361/9763) والحاكم (2/276)، كلاهما عن عبدالسلام بن حرب، عن أبي خالد الدالاني، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – موقوفًا عليه.

والآجري في “تصديق النظر إلى الله – تعالى – في الآخرة” (ص61) بإسناده من طريق وهب بن بقية، عن محمد بن الحسن المدني عن عبدالأعلى بن أبي المُساوِر، عن المنهال به.

وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي.

وصححه أيضًا الشيخ الألباني – رحمه الله – في ” الصحيحة” (941)، وفي “شرح العقيدة الطحاوية” (ص/415)، و”صحيح الترغيب” (3591).

3 – حديث سلمان – رضي الله عنه – مرفوعًا:

((… ويوضع الصراطُ مثل حد المُوسَى)).

أخرجه الحاكم (4/629) وقال: صحيح على شرط مسلم، وتعقبه ابن رجب في “التخويف من النار” (ص 169)، فقال: المعروف أنه موقوفٌ على سلمان الفارسي من قوله.

وحديث سلمان الموقوف أخرجه أيضًا: الحسين المروزى في “زوائده على الزهد لابن المبارك”، (1/478، رقم 1357).

وصححه الألباني موقوفًا عليه في “الصحيحة” (941)، وقال: “إسناده صحيح، وله حُكْم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قِبَل الرأي”.

4 – حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعًا:

((ويُضرب الصراطُ بين ظهرانَيْ جهنَّم)) نحو حديث أبي سعيد مطولاً.

أخرجه البخاري (6204) عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد – القطان – وعطاء بن يزيد، عن أبي هريرة – مرفوعًا.

ومسلم (469) عن زهير بن حرب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة.

“عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بالصراط وبما جاء في وصفه”

أجمع علماء أهل السنَّة والجماعة على الإيمان بالصراط، ووصف هذا الصراط بأنه أدقُّ من الشعر، وأحَدُّ من السيف، وأحمى من الجمر، وأنه دحْض مزلَّة، وأن الناس يمشون على اختلافهم في صفة المشي؛ فمن الناس من يمشي واقفًا، ومن الناس من يمشي جاثيًا.

والأحاديث الواردة في هذا كثيرة، لا سيما الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: “بلغني أن الجسر أدقُّ من الشعر، وأحدُّ من السيف”؛ فهو العمدة عندهم، وأصح ما ورد في الصفة.

7وقالوا: إن هذا لا يقال بمجرد الرأي؛ فإنه أمر غيبي، ولعله لم يقلْه أبو سعيد – رضي الله عنه – إلا عن أثرٍ سمعه من النبي – صلى الله عليه وسلم.

قال أبو الحسن الأشعري: “وأجمعوا على أن الصراطَ جسرٌ ممدود على جهنم، يجوز عليه العبادُ بقدر أعمالهم، وأنهم يتفاوتون في السرعة والإبطاء على قدر ذلك”8.

المعتزلة والعقلانيون ينكرون الصراط9:

ذهب المعتزلة والعقلانيون إلى إنكارِ الصراط، وما جاء في وصفه في الأحاديث الصحيحة، واستدلوا على ذلك بأدلة عقلية، منها:

الدليل الأول: لا يمكن عبورُه أبدًا، إذا كان بهذه الصفة؛ ردًّا بعقولهم، قالوا: إذا كان أدقَّ من الشعر، وأحدَّ من السيف، ودحْضًا مزِلَّة، كيف يعبُر الناسُ هذا؟ ثم من يمر عليه؟! والله قال: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ [مريم: 71]، فيكون المؤمنون كلهم ممن يمرون عليه، قالوا: وإذا كان المؤمنون سيمرون، فهذا تعذيبٌ لهم، والمؤمنون حقهم الجنة، فلماذا يعذَّبون؟

وأنكر هذا الظاهرَ القاضي عبدالجبار المعتزليُّ أيضًا، وكثيرٌ من أتباعه.

الدليل الثاني: قالوا: الصراط – في أصل اللغة – طريقٌ واسع؛ لأن لفظ الصراط يدل على سعتِه، ولأن كونه “دقيقًا وحادًّا” هذا لم يثبتْ به الدليلُ الصحيح، والأنسب أن يكون عريضًا واسعًا؛ حتى يعبرَ الناس عليه.

وقال القَرافي في إنكاره: “والصحيح أنه عريض، وقيل: طريقان، يمنى ويسرى، فأهلُ السعادة يُسلك بهم ذات اليمين، وأهل الشقاوة يُسلك بهم ذات الشمال، وفيه طاقاتٌ كل طاقة تنفذ إلى طبقة من طبقات جهنم، وجهنم بين الخَلْق وبين الجنة، والجسر على ظهرها منصوب، فلا يدخل أحدٌ الجنةَ حتى يمر على جهنم، وهو معنى قوله – تعالى -: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾ [مريم: 71] على أحد الأقوال.

ثم قال القرافي: كون الصراط أدقَّ من الشعر وأحدَّ من السيف، لم أجدْه في الروايات الصحيحة، وإنما يُروى عن بعض الصحابة”10.

ردود علماء أهل السنة والجماعة على المعتزلة ومن تبعهم:

الرد على الشبهة الأولى:

قال أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي في “لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية” (1/190): “اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره؛ من كونه جسرًا ممدودًا على متن جهنم، أحدَّ من السيف، وأدقَّ من الشعر، وأنكر هذا القاضي عبدُالجبار المعتزلي وكثيرٌ من أتباعه؛ زعمًا منهم أنه لا يمكن عبورُه، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصُّلحاء يوم القيامة، وإنما المراد طريقُ الجنة المشار إليه بقوله – تعالى -: ﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ [محمد: 5]، وطريق النار المشار إليه بقوله – تعالى -: ﴿ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 23]، وكل هذا باطلٌ وخرافات؛ لوجوب رد النصوص إلى حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجبَ من المشي على الماء، أو الطيران في الهواء، أو الوقوف فيه…”؛ انتهى.

ولهذا قال العلماء: نؤمن بالصراط، ونصدِّق به؛ لورود الأدلة الصحيحة فيه11.

قال ابن عساكر12: “والإيمان بأن الصراط حقٌّ، وهو جسرٌ ممدود على متن جهنم، أحدُّ من السيف، وأدقُّ من الشعر، تزِل عليه أقدامُ الكافرين بحُكم الله – تعالى – فيهوي بهم إلى النار، ويثبت عليه أقدام المؤمنين، فيساقون إلى دار القرار…”؛ اهـ.

وقال عضد الدين عبدالرحمن بن أحمد الإيجي13“واعلم أن الصراطَ جسرٌ ممدود على ظهر جهنم، يعبُر عليه المؤمن وغير المؤمن، وأنكره أكثرُ المعتزلة…”؛ اهـ.

وقال العيني14: “ثم يُضرب الصراط، والصراطُ جسر ممدود على متن جهنم، أدقُّ من الشعر، وأحدُّ من السيف، عليه ملائكة يحبسون العباد…”؛ اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –15: “إن أداء الأمانة في الوحي أعظم، والوحي الذي أوجب اللهُ طاعته هو الوحي بحكمه وقسمه، وقد ينكر هؤلاء كثيرًا من السنن؛ طعنًا في العقل لا ردًّا للمنقول، كما ينكر كثيرٌ من أهل البدع السننَ المتواترة عند أهل العلم؛ كالشفاعة والحوض والصراط والقدَر وغير ذلك.

إن الأدلةَ العقلية والسمعية المنقولة عن سائر الأنبياء توافق ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وتناقض ما يقوله أهلُ البدع المخالِفون للكتاب والسنَّة.

وإذا قالوا: إن العقلَ يخالف النقل، أخطؤوا في خمسة أصول:

  • أحدها: أن العقل الصريح لا يناقضه.
  • الثاني: أنه يوافقه.
  • الثالث: أن ما يدعونه من العقل المعارض ليس بصحيح.
  • الرابع: أن ما ذكروه من المعقول المعارض هو المعارض للمعقول الصريح.
  • الخامس: أن ما أثبتوا به الأصول – كمعرفة الباري وصفاته – لا يُثبتها، بل يناقض إثباتَها”.

الرد على الشبهة الثانية:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح” (3/178): “فيقال لهم: “الصراط” في لغة العرب هو الطريق، يقال: هو الطريق الواضح، ويقال: هو الطريق المحدود بجانبين، الذي لا يُخرج عنه، ومنه الصراط المنصوب على جهنم، وهو الجسر الذي يَعبر عليه المؤمنون إلى الجنة، وإذا عبَر عليه الكفار سقطوا في جهنم، ويقال: فيه معنى الاستواء والاعتدال الذي يوجب سرعةَ العبور عليه، وفيه ثلاث لغات، هي ثلاث قراءات: الصراط والسراط والزراط…”.

فهذا هو الذي يجب أن يُؤخذ به، وأما من قال: إنه واسع، فإن هذا ليس بظاهر؛ إذ اعتمادهم في تفسير كلمة “الصراط” على اللغة، وهذا لا يُقضى به على ما جاء في الحديث والأثَر ذُكر أول الفقرة16.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية17 في “إقامة الدليل على إبطال التحليل” (ص: 140): “اعلم أن أهل الحق نابذوا المعتزلة وخالفوهم، واتبعوا السمعَ والشرع، وأثبتوا الرؤيةَ والنظر، وأثبتوا الصراط والميزان، وعذاب القبر، ومسألة منكر ونكير، والمعراج والحوض، واشتد نكيرُهم على من يُنسب إلى إنكار مأثور الأخبار، والمستفيض من الآثار، في هذه القواعد والعقائد”.

الرد على القرافي لما قال بأنه لا يعلم في هذا حديثًا صحيحًا:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “مثل حديث أبي هريرة الطويل في تجليه يوم القيامة ومرورهم على الصراط، وهو في الصحيح أيضًا من حديث أبي سعيد…”18.

وقال النووي – رحمه الله -: “مذهب أهل الحق أنه جسر ممدود على متن جهنم يمر عليه الناس كلهم؛ فالمؤمنون ينجُون على حسب أعمالهم ومنازلهم، والآخرون يسقطون فيها، عافانا اللهُ الكريم، والسلف يقولون: إنه أدقُّ من الشعر، وأحدُّ من السيف، وهكذا جاء في رواية أبي سعيد”19.

الخاتمة وأهم النتائج المحصلة من البحث:

  1.  الإيمان بالصراط وبما جاء في وصفه من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بالإجماع.
  2.  الأحاديث الواردة في الصراط وصفته صحيحةٌ بلا ريب؛ إذ أكثرها في الصحيحين، بل هي متواترة؛ فلذا لا عبرة بقول المعتزلة: إنها من الآحادِ، زورًا وبهتانًا.
  3.  الأدلة والشبهات المثارة لإنكار حقيقة الصراط أو التشكيك في صحته – مردودةٌ عقلاً ونقلاً من علماء أهل السنَّة والجماعة.
  4.  منهج علماء أهل السنة والجماعة في أمور الغيب وغيرها من مسائل العقيدة؛ كالأسماء والصفات – إمرارُها على ظاهرها دون تأويل، والتسليمُ لذلك دون أي تردُّد.

هذا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.

فهرس المراجع:

  1.  إقامة الدليل على إبطال التحليل: لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: مصطفى عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، ط – الأولى: 1408هـ.
  2.  تبيين كذب المفتري؛ لابن عساكر: دار الكتاب العربي – بيروت، ط – الثانية 1404هـ.
  3.  الأدلة والشبهات المثارة لإنكار حقيقة الصراط أو التشكيك في صحته – مردودةٌ عقلاً ونقلاً من علماء أهل السنَّة والجماعة.
  4.  رسالة إلى أهل الثغر؛ لأبي الحسن الأشعري، تحقيق عبدالله شاكر الجنيدي، مكتبة العلوم والحِكم – المدينة المنورة، ط – الثانية: 1422هـ.
  5.  منهج علماء أهل السنة والجماعة في أمور الغيب وغيرها من مسائل العقيدة؛ كالأسماء والصفات – إمرارُها على ظاهرها دون تأويل، والتسليمُ لذلك دون أي تردُّد.
  6.  شرح العقيدة الواسطية؛ للشيخ صالح آل الشيخ، دار العاصمة – الرياض.
  7.  شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لعمر بن سعود العيد، دار الخضيري – الرياض، ط – الأولى 1419هـ.
  8.  شرح لمعة الاعتقاد؛ لعبدالرحمن صالح المحمود.
  9.  العقيدة القيروانية، دار المنهاج، ط – الأولى: 1430هـ.
  10.  عمدة القاري شرح صحيح البخاري؛ لبدر الدين العيني، ط – المنيرية.
  11.  كتاب المواقف؛ لعبدالرحمن بن أحمد الإيجي، تحقيق عبدالرحمن عميرة، دار الجيل – بيروت، ط – الأولى: 1997م.
  12.  لمعة الاعتقاد؛ لابن قدامة المقدسي، طبعة وزارة الشؤون الإسلامية – السعودية، 1420هـ.
  13.  لوامع الأنوار البهية؛ للسفاريني، مؤسسة الخافقين – دمشق، ط – الثانية: 1402هـ.
  14.  مرقاة المفاتيح؛ لملا علي القاري، بتحقيق جمال العيتاني، دار الكتب العلمية – بيروت ط – الأولى: 1422هـ.
  15.  الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد؛ للشيخ صالح الفوزان، طبعة الرئاسة العامة للبحوث العلمية – السعودية، ط – الأولى: 1410هـ.
  16.  الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها، دراسة نقدية شرعية؛ للدكتور سعيد ناصر الغامدي، دار الأندلس الخضراء – جدة، ط – الأولى: 1424هـ.

  1. وللمزيد في معرفة شخصيات العصرانيين وموقفهم من السنة والدين راجع لزامًا: “العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب”؛ للدكتور محمد حامد الناصر (ص/23) وما بعدها. ↩︎
  2. إعلام الموقعين (3/464 – 465). ↩︎
  3. مدارج السالكين (2/468 – 469) بتحقيق محمد حامد الفقي، ط – الثانية: 1393هـ – بيروت. ↩︎
  4. صحيح البخاري (7001). ↩︎
  5. (1/565) بتحقيق د/ عبدالعلي عبدالحميد حامد، مكتبة الرشد، ط – الأولى 1423هـ. ↩︎
  6. الصحيحة للشيخ الألباني (9/7). ↩︎
  7. لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (ص/19)، شرح العقيدة الطحاوية؛ لعبدالعزيز الراجحي (ص/316)، والعقيدة القيروانية (28)، وشرح لمعة الاعتقاد؛ لعبدالرحمن بن صالح المحمود (الدرس 14)، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد؛ للشيخ صالح الفوزان (ص/274). ↩︎
  8. رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري (ص/286) بتحقيق عبدالله شاكر الجنيدي، مكتبة العلوم والحكم – دمشق، ط – الأولى: 1988م، و”فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام” د/ غالب العواجي (1/193). ↩︎
  9. يراجع: الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها دراسة نقدية شرعية – رسالة دكتوراه – لسعيد ناصر الغامدي (2/1367) وما بعدها. ↩︎
  10. لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية: لشمس الدين، أبي العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (2/193) مؤسسة الخافقين – دمشق، ط – الثانية: 1402هـ. ↩︎
  11.  لمعة الاعتقاد (ص/13). ↩︎
  12. تبيين كذب المفتري (ص/305) دار الكتاب العربي – بيروت، ط – الثانية: 1404هـ. ↩︎
  13. في كتابه المسمى: “كتاب المواقف” (3/523) بتحقيق د/ عبدالرحمن عميرة، دار الجيل – بيروت، ط – الأولى: 1997هـ. ↩︎
  14. في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (9/305) باعتناء عبدالله محمود عمر محمد، دار الكتب – بيروت، ط – الأولى: 1421هـ. ↩︎
  15. الفتاوى (16/463). ↩︎
  16. شرح العقيدة الواسطية؛ للشيخ صالح آل الشيخ (ص: 43). ↩︎
  17. في “إقامة الدليل على إبطال التحليل” (ص: 140). ↩︎
  18. درء تعارض العقل والنقل؛ لابن تيمية (3/202). ↩︎
  19. نقلاً من مرقاة المفاتيح (6/133). ↩︎
المصدر
شبكة الألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى