أسباب النُّزُول ضيَّعت جمال وحلاوة الآيات وفهمها!
(39) زعم البحيري: أنَّ أسباب النُّزُول ضيَّعت جمال وحلاوة الآيات وفهمها، وضرب مثالًا بسورة «التَّكاثُر» حيث قال كلامًا مفاده: أنَّ المعنى الفلسفي للآية الجميل المُتَّسِق أنَّنا أَلْـهَتْنَا أموالُنا وأولادُنا و و… حتى متنا، لكنَّ المُفسِّرين لا يذكرون هذا، وإنَّما يذكرون أسباب النُّزُول التي دمَّرت الآيات، وذكر قِصَّة القبيلتين اللَّتين تشاجرتا معًا، فمِن ثَمَّ نزلت السُّورة.
– الرَّدّ: من جهتين:
أولًا: القِصَّة التي ذكرها إسلام البحيري ضعيفة لا تثبت، وهي: أنَّ قبلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: «فيكم مثل فلان ابن فلان وفلان»، وقال الآخرون مثل ذلك، تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: «انطلقوا بنا إلى القبور»، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: «فيكم مثل فلان» – يشيرون إلى القبور – «ومثل فلان»، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر1.
وسبب ضعف هذه القِصَّة أنَّها مروية من طريق «صالح بن حبان القرشي» وهو ضعيف، ضعَّفه «يحيى بن معين»، و «أبو داود»، و «ابن حجر» وغيرهم.
ثانيًا: ما مِن مُفسِّر يُفسِّر سُورة التَّكاثر إلَّا ويذكر هذه المعاني الجميلة التي ذكرها البحيري، بل وأكثر منها، ومن مثال ذلك:
قال «الطَّبري» – رحمه الله –2: [يقول تعالى ذكره: ألهاكم أيُّها الَّناس المباهاة بكثرة المال والعَدَد عن طاعة ربِّكم، وعمَّا يُنجِّيكم من سخطه عليكم …] اهـ
وقال «ابن كثير» – رحمه الله –3: [يقول تعالى: أشغلكم حُبّ الدُّنيا ونعيمها وزهرتها عن طَلَب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزُرْتُم المقابر وصِرْتم من أهلها…] اهـ
وقال «القرطبي» – رحمه الله –4: قوله تعالى (ألهاكم التكاثر): [أي شغلكم المُباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله، حتى مُتُّم ودُفِنْتُم في المقابر…] اهـ
وقال «ابن القيم» – رحمه الله –5: [أخبر سُبحانه أنَّ التَّكاثُر شغل أهل الدُّنيا وألهاهم عن الله والدَّار الآخرة، حتى حضرهم الموت، فزاروا المقابر دون الموت، ولم يفيقوا من رقدة إلهاء التَّكاثُر.] اهـ
….، وغير ذلك الكثير والكثير من كلام المُفسِّرين قديماً وحديثًا، ولكنَّه كذب وتدليس إسلام البحيري الذي لا ينتهي!
([1]) انظر القصة: في «تفسير ابن أبي حاتم » (10/3459) وغيره، ط/ مكتبة نزار الباز – المملكة السعودية.
([2]) انظر: «جامع البيان = الطبري» (24/579)، ط/ مؤسسة الرسالة – بيروت.
([3]) انظر: «تفسير القرآن العظيم = ابن كثير» (8/450)، ط/ دار الكتب العلمية – بيروت.
([4]) انظر: «الجامع لأحكام القرآن = القرطبي» (20/168) باختصار، ط/ دار الكتب المصرية – القاهرة.
([5]) انظر: «التفسير القيم = ابن القيم» ص (575)، ط/ دار الهلال – بيروت.