شبهات حول السنةمقالات أخرى

أساليب “العقلانيين” في التعامل مع “السنة النبوية” (3)

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

ضَوابِطُ مُهِمَّةٌ ينبغي التَّنِبيه عليها:

  1.  ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المدرسةَ العقليةَ مدرسةٌ كبيرةٌ ومُتَشَعِّبة؛ ونحن حين نتحدَّث عنها أو نُعارضها فيما ذهبتْ إليه من آراءٍ، أو فيما تبنَّت من أفكار؛ إنما نُحاكِمُ فِكْراً وننتقد رأيًا، ولا علاقة لنا بِشَخْصِ مَنْ نَطَقَ به أو تَبَنَّاه.
  1.  إنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه ليسوا على نَمَطٍ واحدٍ، وليسوا على خَطٍّ واحد من حيث: المُنطَلقات والآليات والأهداف؛ فمنهم: مَنْ يتبنَّى الفِكْرَ الإسلامي ولا يرضى به بديلاً، ولكنه في خِضَمِّ سعيه إلى ذلك أخطأ في بعض الآراء والرُّؤى التي أقحم فيها العقلَ؛ ربما لِقِلَّةِ بضاعته في الحديث وعلومه، وربما رغبةً في رَدِّ مزاعِمَ وافتراءاتٍ ضِدَّ الإسلام، ومنهم: مَنْ يَغُوص في هذا الفِكر من مَنْبَتِ شَعْرِه حتى أَخْمَصِ قَدَميه، ولا نَشُكُّ في دِينه ولا في نِيَّتِه، وإنما نرد عليه ردًّا عِلْمِيًّا بعيداً عن أيِّ تَصَوُّرٍ مُسْبَقٍ، وبعيداً عن الشَّخْصَنَةِ المَقِيتة؛ فالأشخاص ينتهون وتبقى الأفكارُ؛ لذا كان التَّركيزُ على الفِكرة لا الشَّخْص.
  1.  إنَّ هؤلاء جميعاً تَجْمَعُ بينهم قَواسِمُ مُشْتَرَكة؛ مِثْلُ غُلُوِّهم في تعظيم العقل، وقولِهم بتقديمه على النَّقل عند تَوَهُّم التَّعارُضِ، ونحو ذلك.

ومن أهم أساليب “العقلانيين” في التعامل مع “السُّنة النبوية” ما يلي:

الأسلوب السادس: تمجيدهم “للمعتزلة” وذمُّهم “لأهل الحديث”:

من العلامات البارزة للعقلانيين تمجيدهم لمنهج المعتزلة، والدفاع عنهم، والثناء عليهم بمناسبة وبغير مناسبة، وتبني أفكارهم وآرائهم وأقوالهم، وفي الوقت ذاته الطعن واللمز بأهل الحديث والاستهزاء بهم، والحط من قدرهم، وتنفير الناس منهم، واعتبارهم وصمة عار في جبين التاريخ الإسلامي، والهجوم عليهم بمناسبة وبغير مناسبة.

نماذج من تعظيمهم للمعتزلة:

  1. يقول “أحمد أمين” – مثنياً على المعتزلة في دفاعهم عن الإسلام: (وكان للمعتزلة الفضل الأكبر في علم الكلام؛ لأنهم كانوا أكبر المدافعين عن الإسلام، لِمَا كان يُثِيره اليهود والنصارى والوثنيون من هبوب؛ حتى لقد كانوا – فيما روي – يُرسلون أتباعهم الكثيرين إلى البلدان الأُخرى لرد الهجوم ردًّا عقليًّا.

وذاع صيتهم، وعلا شأنهم بوجود طائفة ممتازة منهم؛ مثل واصل بن عطاء، وأبي الهذيل العلاف، والنَّظَّام، والجاحظ، وغيرهم؛ بسبب ما أُثير من مسألة خلق القرآن)1.

  1.  ويقول “زهدي جار الله” – في ثنائه البالغ على المعتزلة: (المعتزلة وقفوا أنفسهم على الدفاع عن الدين الإسلامي؛ بالرد على خصومه، وحملِه إلى أقاصي الأرض للتبشير به، وأنهم تحمَّلوا في سبيل ذلك العناء والمشقَّات، وسهروا الليالي الطِّوال يضعون الكتب والمصنفات، ومنهم مَنْ لقي حتفه، وليس يَذكر التاريخُ أنَّ أحداً من المسلمين كان أشد م2نهم تحمُّساً لتلك العناية، ولا أعظم حرصاً عليها).

ويقول – في موضع آخر: (لعل من أهم ما يسترعي انتباه الباحث في تاريخ المعتزلة تلك الضخامة في شخصياتهم، وذلك السُّمو في صفاتهم؛ فقد جمعوا في أنفسهم بين التَّبحُّر في العلم، والشغف بالفلسفة، والكلف بالأدب، والتحلِّي بالفضائل، والانصراف إلى العبادة، والزهد في متاع الحياة الدنيا. فكانوا في الدولة العربية الإسلامية طبقةً مثقَّفةً ثقافة عالية، ومشكاةً باعثةً نورَ العرفان، وحماسةَ الإيمان)3.

ولسنا بصدد تقييم دور المعتزلة في الدفاع عن الإسلام، لكن من أوضح الشواهد على عدل أهل السنة وإنصافهم مع مخالفيهم هو الإشادة ببعض إنجازات هؤلاء المخالفين؛ كما فَعَلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شأن الرازي صاحب “التفسير الكبير” إذاً أهل السنة لا يُحاكمون أشخاصاً، ولكن يُحاكمون منهجاً، فربما كان هناك خلل في المنهج، ولكن صاحبه صادق النية.

وما يؤخذ على أصحاب المدرسة العقلانية المعاصرة هو محاولتهم وإصرارهم إقصاء دور الاتجاه السَّلفي، وإلصاق التُّهَم الباطلة بأصحابه؛ مثل الرجعية والحَرْفية والنَّصية والوهابية والأصولية وأخواتِها من الألقاب الظالمة؛ بل اتِّهامهم صراحةً بأنهم سبب تأخُّر المسلمين، وأنهم كانوا حجر عثرة في طريق تقدُّم المسلمين. فهذا ما نأخذه عليهم ولا نقبله منهم، وهذا ظاهر في حديثهم عن أهل السنة.

نماذج من ذمِّهِم أهلَ الحديث:

  1.  يقول “محمد عبده” – في ذمه لأهل الحديث، واتهامهم بالجهل: (اللهم إلاَّ فئة زعمت أنها نفضت غبار التقليد، وأزالت الحُجب التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون الأحاديث لتفهم أحكام الله منها، ولكن هذه الفئة أضيق عطناً، وأحرج صدراً من المقلِّدين؛ وإنْ أنكرتْ كثيراً من البدع، ونحَّت عن الدين كثيراً ممَّا أُضيف إليه وليس منه؛ فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من اللفظ الوارد والتَّقيد به، بدون التفاتٍ إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة، ولأجلها مُنِحت النبوة، فلم يكونوا للعلم أولياء، ولا للمدنية السليمة أحِبَّاء).4
  1.  ويقول “محمود أبو رية” – مستهزأً بأهل الحديث، ومُشَبِّهاً إياهم بالعوام: (فترى ماذا تكون حال الكثيرين من الذين يزعمون اليوم أنهم من المُحدِّثين، أولئك الذين يتسلَّلون بين أشباههم من العامة – ومبلغ علمهم أنهم قرؤوا بعض كتب الحديث، واستظهروا عدداً مما فيها، يجترُّونه ليؤيِّدوا به باطل المعتقدات، وسوء العادات، ويُروِّجوا به ما فشى بين الناس من الترهات والخرافات؛ لكي يختلسوا احترام الدهماء وثقتهم، ويأكلوا بالباطل والإثم أموالهم.

على أنهم لو عرفوا قدر أنفسهم، وأنَّ ما يحفظونه مما لا يزيد أكثره – عند أحفظهم – عن عشراتٍ من الأحاديث، وأنَّ كتاباً من كتب الحديث لا يزيد ثمنه عن بضعة قروش يُغني عنهم جميعاً! لو أنهم عرفوا ذلك كلَّه واستيقنوه؛ لَقَبَعوا في جُحورهم، ولأراحوا الناس من نقيقهم.

ورحم الله أستاذنا الإمام محمد عبده حيث قال – في رجل وصفوه بأنه قد جدَّ واجتهد؛ حتى بلغ ما لم يبلغه أحد، فحفظ متن البخاري كله: “لقد زادت نسخةٌ في البلد”. حقًّا واللهِ ما قاله الإمام، أي: أنَّ قيمة هذا الرجل – الذي أُعجب الناس جميعاً به؛ لأنه حفظ البخاري – لا تزيد عن قيمة نسخة من كتاب البخاري، لا تتحرك ولا تعي)5.

فبالله، ثم بالله، هل أهلُ الحديث يَسِيرون مع العامة في عقائدهم وخرافاتهم، فمَن إذاً الذي يردُّ البدعة؟! ومَن الذي أوقف التبرك بالأموات؟! ومَن الذي حارب الموالد؟! ومَن الذي حارب الخرافة؟!

إنَّ هذا الموقف السَّلبي الذي اتَّخذه “أبو رية” دليلٌ على جهله، لا؛ بل على حِقده، ألم يكن له أنْ يستشهد بقول شيخه “محمد عبده” – عن أهل الحديث: (أنكرتْ كثيراً من البدع، ونحَّت عن الدِّين كثيراً ممَّا أُضيف إليه وليس منه)6، فيأتي هو ويُضيف إليهم تُهمةً هم أبعد الناس عنها، بل لم يجرؤ أعتى أعدائهم نسبتها إليهم، ولكن سَقْطُ القول يَفضح ما تُضْمِرُه النفوسُ من حقدٍ وغِلٍّ.

  1. ويقول “أحمد أمين” :(ولئن كان للمحدِّثين محامد من ناحية الجِدِّ في الجمع والنقد، وعدم الاكتراث بالمتاعب، والصبر على الفقر، ونحو ذلك، فقد كان لهم – والحقُّ يقال – بعض الأثر السيئ في المبالغة في الاعتماد على المنقول دون المعقول، خصوصاً بعدما مات المعتزلة، فقد كان المعتزلةُ هؤلاء حاملي لواء العقل، والمحدِّثون حاملي لواء النقل. وكان عقل المعتزلة يُلَطِّف من نقل المحدِّثين. فلمَّا نُكِّلَ بالمعتزلة على يد المتوكل؛ علا منهجُ المحدِّثين، وكاد العلم كله يصبح رواية. وكان نتيجة هذا، ما نرى من قلة الابتكار، وتقديس عبارات المؤلفين، وإصابة المسلمين – غالباً – بالعقم، حتى لا تجد كتاباً جديداً، أو رأياً جديداً بمعنى الكلمة. بل تكاد العقول كلها تصب في قالب واحد جامد).7

لقد نسِيَ “أحمد أمين” أو تَناسى أنَّ المعتزلة في أوَّل الأمر، هم أوَّل مَن استخدم السُّلطان والقوة في فرض رأيهم؛ وذلك في عصر المعتصم، عندما فرض القول بمسألة “خلق القرآن” بالقوة، وكانت محنة أهل السنة، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله، فَسَنُّوا سنَّةً سيِّئة في الناس، ولو كانوا يحترمون العقلَ لاحترموا الخلافَ في الرأي، ولكنهم بَغَوا على مَنْ خالفهم، وأبى الله تعالى إلاَّ أنْ يُذيقهم من الكأس التي أذاقوها غيرَهم.

وقد أراد “أحمد أمين” أنْ يُحَمِّلَ أهلَ السُّنة تخلُّف المسلمين وتأخُّرهم، ولا أدري على أيِّ شيءٍ اعتمد، وبأيِّ منهجٍ وصل إلى هذه النتيجة، فإلقاء التُّهم جُزافاً، والكلام على إطلاقه لا يصلح أنْ يكون منهجاً للباحث عن الحق.

  1.  وها هو “محمد الغزالي” – يصف الأحاديث بأنها ركام من المرويات؛ زهداً فيها، وتنفيراً منها ومن أهلها، فيقول: (ونحن هنا نذود المرويات الواهية، والأحاديث المعلولة؛ كما نذود عن القرآن نفسِه التفاسيرَ المنحرفة والأفهام المختلفة؛ ليبقى الوحي الإلهي نقيًّا.

إنَّ ركاماً من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، وركاماً مثله من الأحاديث التي صحَّت، وسَطَا التحريفُ على معناها، أو لابَسَها كلُّ ذلك؛ جعلها تنبو عن دلالات القرآن القريبة والبعيدة.

وقد كنتُ أزجر بعضَ الناس عن رواية الحديث الصحيح حتى يكشفوا الوهم عن معناه! إذا كان هذا المعنى مُوهِماً؛ مثل حديث: “لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ”8 إنَّ طوائف من البطالين والفاشلين وقفت عند ظاهِرِه المرفوض)9.

ويقول أيضاً: (ولو جعلنا هذه المرويات محورَ حياة عامَّةٍ لشاع الخرابُ في أرجاء الدنيا.. إنَّ سعة الفقه لا بد منها لفهم مروياتٍ شتى!

وقد وقف الحَرْفيون عند هذه الآثار فوقفوا بالعالم الإسلامي؛ كما وقف حمار الشيخ في العقبة لا يتقدَّم ولا يتأخر! بل لعله تراجع إلى العصر الحجري في بعض جوانبه)10.

ويقول كذلك: (وشرع أنصافُ وأعشارُ المتعلِّمين يتصدَّرون القافلةَ ويُثيرون الفتن بدل إطفائها. وانتشر الفقه البدوي، والتصور الطفولي للعقائد والشرائع. وقد حاولتُ في كتابي “دستور الوحدة الثقافية” أنْ أُوقِف هذا الانحدار، بيد أنَّ الأمر يحتاج إلى جهود متضافرة وسياسة علمية محكمة.

وفي هذا الكتاب جرعةٌ قد تكون مُرَّة للفتيان الذين يتناولون كتب الأحاديث النبوية ثم يحسبون أنهم أحاطوا بالإسلام علماً بعد قراءة عابرة أو عميقة.

ولعل فيه درساً لشيوخٍ يُحاربون “الفقه المذهبي” لحساب “سلفية مزعومة” عَرفتْ من الإسلام قشوره ونَسِيت جذوره)11.

وقفة هادئة مع “محمد الغزالي”:

إنَّ وصف “الغزالي” للأحاديث الموضوعة بأنها “ركام” حقٌّ، ولكن لا يليق أنْ تُوصف “الأحاديث الصحيحة” بالرُّكام، وما قاله بشأن ضرورة الذَّود عن حِياض السُّنة النبوية الشريفة حق.

والسؤال هنا: هل قام بعبء هذا الأمر إلاَّ أهلُ الحديث؟! وهل هَبَّ وانتفض من الناس وتقدَّم لِتَحَمُّل هذا الأمر إلاَّ أهلُ الحديث؟! وهل توقَّف جهدُهم المبارك على مدار التاريخ الإسلامي، وإلى الآن؟!

إنَّ أهل الحديث هم مَنْ نصروا وناصروا السُّنة، فبيَّنوا صحيحَها ونبَّهوا على سقيمها، وأثبتوا ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ونفوا عنه انتحال المُبطلين، ووضع الوضَّاعين، وَفْقَ منهجٍ بَهَرَ العالَم بأسْرِه، ولم يُسبق إليه غيرهم.

إذاً، لماذا هذا الانتقاصُ من شأنهم، والتَّقليلُ من جُهدهم؟! لقد كان الأَولى بـ “الغزالي” الاعتراف بفضلهم، فهو وغيرُه لم يَصِلْه الحديثُ ولم يصله الدِّينُ إلاَّ عن طريقهم.

وأمَّا عن موقفه من بعض الأحاديث الصحيحة وردِّها لِمُجرَّد مخالفتها رأيه أو عقله، فأيُّهما أَولى: تقديم عقله “القاصر المحدود” أم تقديم النص “الصحيح” الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبقت الإشارة – من قبل – بأنَّ الكيل بمكيالين أمرٌ في غاية الخطورة، وهنا تساؤل: لماذا نُصدِّق الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة الوحي والنبوة والرسالة، ومجيء الخَبَر من السماء، ونزول القرآن عليه، وغير ذلك من مسائل العقيدة والدِّين، ولا نُصدِّقه في مسائلَ أُخرى؛ كحديث الذبابة، وسِحْرِ النبي صلى الله عليه وسلم، وملك الموت، ونحوها؟! وهل الأُولى واضحةٌ دالَّةٌ بنفسِها دون دليل من العقل، في حِين الثانية مُحتاجة إلى دليلٍ من العقل؟!

إنَّ كليهما يحتاج إلى دليل من العقل – حسب رأي المدرسة العقلية – فلماذا إذاً يُفرِّقون بينهما، فمَنْ يردُّ هذه، فَلْيردَّ تلك، ومَنْ يطلب العقل كدليلِ هذه، فَلْيطْلُبه في تلك أيضاً أو ليصمت.

الأسلوب السابع: ادِّعاء “تأخُّر تدوين الحديث”:

يدَّعي ويزعم العقلانيون؛ كما زعم المستشرقون – من قبل – أنَّ الحديث لم يُدوَّن ويجمع إلاَّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقرون، ما أدى إلى تحريفه وكثرة الوضع فيه، وعدم الثقة به، ويمكن أن نجمل ادعاءاتهم في النقاط التالية12:

  1.  أنَّ الأحاديث التي تنهى عن كتابة الحديث أصح من الأحاديث الآمرة بكتابته، وزعم بعضهم أنها ناسخة لها؛ لأنها متأخرة عنها.
  1.  لم تُكتب الأحاديث إلاَّ بعد عهده صلى الله عليه وسلم بمدة تكفي لأنْ يحصل فيها من الزيادة والنقصان والفساد؛ مثلما حصل ذلك لأهل الكتاب، لعدم كتابتها في عهده، والصحابة لم يحصروا الأحاديث في كتاب معين، ولم يبلِّغوها للناس بالتواتر، ولم يحفظوها حفظاً متقناً في صدورهم، ولا يمكن بغير تقييد بالكتابة أن يُحصر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في “ثلاثة وعشرين” عاماً، مما سهَّل استباحة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
  1.  لم يتكفَّل الله تعالى بحفظ السُّنة كما حفظ القرآن الكريم، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة السنة كما أمر بكتابة القرآن.
  1.  الزعم بأنَّ حديث: (أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)13 لم يَثبت، ولو كان صحيحاً؛ لَمَا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث، ولأَمَر بتدوينه كما دُوِّن القرآن، وإلاَّ لم يكن قد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة؛ لِضَياع نصف الوحي، ولماذا ترك الصحابة نصف الوحي ولم يُدوِّنوه؟ فيقعون – بسبب إهمالهم – في الإثم.
  1.  لم يكتب جميع الصحابة الأحاديث. ومَن كتب الأحاديث فإنما كتبها لِنَفْسِه؛ كي يحفظها ثم يمحوها.
  1.  تأخر تدوين الحديث إلى ما بعد “المائة الأُولى” وصدرٍ كبيرٍ من “المائة الثانية” مما فتح الباب على مصراعيه لاختلاط الأحاديث الموضوعة بالصحيحة، وقد بلغت الأحاديث الموضوعة “عشرات الألوف”، ويتعذَّر على المسلمين تمييزها من الصحيح.

والصحابة الكرام رضي الله عنهم كانوا أشد الناس حرصاً على جمع الحديث وتدوينه بكل ضبط وأمانة؛ خلافاً لما يدَّعيه العقلانيون، وقد سبق الجواب على “شبهة تأخُّر تدوين الحديث” في المطلب الخامس (الطعن في الأحاديث النبوية)، من المبحث الأول (طعن المستشرقين في السنة) من هذا الفصل14 بما أغنى عن إعادته هنا، فليراجع.

الأسلوب الثامن: عدم الوثوق بالأحاديث بِحُجَّة أنها “مروية بالمعنى”:

يزعم بعض العقلانيين أن كثيراً من الأحاديث قد رويت بالمعنى مما يُضعف الوثوق بالأحاديث، وممن صرح بذلك “محمود أبو رية” – وقد ادَّعى أنه أجرى دراسةً مستفيضة، وبذل جهداً كبيراً في سبيل الوصول لهذه الحقيقة، فيقول: (حتى انتهيتُ إلى حقائق عجيبة ونتائج خطيرة؛ ذلك أني وجدتُ أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها ممَّا أسموه صحيحاً، أو ما جعلوه حسناً حديث قد جاء على حقيقة لفظِه ومُحكمِ تركيبه. كما نطق الرسولُ به، ووجدتُ أنَّ الصحيح على اصطلاحهم إنْ هو إلاَّ معانٍ ممَّا فهمه بعض الرواة! وقد يوجد بعضُ ألفاظٍ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة وذلك في الفلتة والندرة، وتبيَّن لي أنَّ ما يُسمُّونه في اصطلاحهم “حديثاً صحيحاً” إنما كانت صحتُه في نظر رواته، لا أنه صحيح في ذاته. ومن أجل ذلك جاءت أكثر الأحاديث وليس عليها من ضياء بلاغته – صلوات الله عليه – إلاَّ شعاع ضئيل)15

وهذا – لا شك – محض افتراء من “محمود أبو رية” فإنَّ رواية الحديث بالمعنى – بشروطٍ معروفةٍ في بابها – هو الذي عليه جمهور أهل العلم سلفاً وخلفاً16.

ومع ذلك فقد أُثِرَ عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم التَّشدُّد في رواية الحديث بلفظه؛ خشية الوقوع في الخطأ، فكانوا يتحرَّون ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبارُهم في ذلك مشهورة معروفة، وقد مَنَّ اللهُ تعالى عليهم بحوافظ قوية، مكَّنتهم من ضبط “ألفاظ الأحاديث” كما خرجت من فَمِ النبي صلى الله عليه وسلم17.

  1. ظهر الإسلام، (2/ 50). ↩︎
  2. المعتزلة، زهدي حسن جار الله (ص 46). ↩︎
  3. المعتزلة، (ص 222). ↩︎
  4. الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، محمد عبده (ص 107). ↩︎
  5. أضواء على السنة المحمدية، (ص 329) ↩︎
  6. الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، (ص 107). ↩︎
  7. ظهر الإسلام، (2/ 48). ↩︎
  8. رواه البخاري، (3/ 1177)، (ح 5735)؛ ومسلم، (2/ 1191)، (ح 7294). ↩︎
  9. السنة النبوية، (ص 119). ↩︎
  10. السنة النبوية، (ص 117). ↩︎
  11. السنة النبوية، (ص 11). ↩︎
  12. انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 23-25، 80، 223، 251)؛ مجلة المنار، (مجلد 9)، (ص 515، 911)، (مجلد 10)، (ص 767768)؛ فجر الإسلام، (ص 210، 221-222)؛ موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (2/ 294-296). ↩︎
  13. رواه أحمد في (المسند)، (4/ 130)، (ح 17213)؛ وأبو داود، (4/ 200)، (ح 4604). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 117)، (ح 4604). ↩︎
  14. (ص 31) وما بعدها. ↩︎
  15. أضواء على السنة المحمدية، (ص 7). ↩︎
  16. انظر: اختصار علوم الحديث مع شرحه الباعث الحثيث، (ص 136)؛ مقدمة ابن الصلاح، (ص 105). ↩︎
  17. لمعرفة (جهود الصحابة رضي الله عنهم في حفظ السنة النبوية) انظر: عظمة السنة النبوية، (ص 52، 69). ↩︎
زر الذهاب إلى الأعلى