المقالاتشبهات حول السنةشبهات وردود

أساليب “العقلانيين” في التعامل مع “السنة النبوية” (1)

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

ضَوابِطُ مُهِمَّةٌ ينبغي التَّنِبيه عليها:

قبل الحديث عن أساليب العقلانيين في هجر السُّنة والتعامل معها، لا بد من التنبيه على بعض الضَّوابِط المُهِمَّة:

  1.  ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المدرسةَ العقليةَ مدرسةٌ كبيرةٌ ومُتَشَعِّبة؛ ونحن حين نتحدَّث عنها أو نُعارضها فيما ذهبتْ إليه من آراءٍ، أو فيما تبنَّت من أفكار؛ إنما نُحاكِمُ فِكْرًا وننتقد رأيًا، ولا علاقة لنا بِشَخْصِ مَنْ نَطَقَ به أو تَبَنَّاه.
  2.  إنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه ليسوا على نَمَطٍ واحدٍ، وليسوا على خَطٍّ واحد من حيث: المُنطَلقات والآليات والأهداف؛ فمنهم: مَنْ يتبنَّى الفِكْرَ الإسلامي ولا يرضى به بديلًا، ولكنه في خِضَمِّ سعيه إلى ذلك أخطأ في بعض الآراء والرُّؤى التي أقحم فيها العقلَ؛ ربما لِقِلَّةِ بضاعته في الحديث وعلومه، وربما رغبةً في رَدِّ مزاعِمَ وافتراءاتٍ ضِدَّ الإسلام، ومنهم: مَنْ يَغُوص في هذا الفِكر من مَنْبَتِ شَعْرِه حتى أَخْمَصِ قَدَميه، ولا نَشُكُّ في دِينه ولا في نِيَّتِه، وإنما نرد عليه ردًّا عِلْمِيًّا بعيدًا عن أيِّ تَصَوُّرٍ مُسْبَقٍ، وبعيدًا عن الشَّخْصَنَةِ المَقِيتة؛ فالأشخاص ينتهون وتبقى الأفكارُ؛ لذا كان التَّركيزُ على الفِكرة لا الشَّخْص.
  3.  إنَّ هؤلاء جميعًا تَجْمَعُ بينهم قَواسِمُ مُشْتَرَكة؛ مِثْلُ غُلُوِّهم في تعظيم العقل، وقولِهم بتقديمه على النَّقل عند تَوَهُّم التَّعارُضِ، ونحو ذلك.

ومن أهم أساليب “العقلانيين” في التعامل مع “السُّنة النبوية” ما يلي:

الأسلوب الأول: تقديم “العقل” على “النقل”:

وهذه بعض النماذج من أقوال رواد “المدرسة العقلية الحديثة” التي تبنَّت تقديم “العقل” على “النقل”، وهي امتداد لأقوال المدرسة العقلية القديمة1:

  1. قول إمام المدرسة العقلية الحديثة “محمد عبده” في أهمية العقل: (الأصل الأول للإسلام: النظر العقلي لتحصيل العلم، فأوَّل أساسٍ وُضِعَ عليه الإسلام هو النظر العقلي، والأصل الثاني للإسلام: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض.

واتَّفق أهل الملة الإسلامية – إلاَّ قليلًا ممَّن لا يُنظر إليه – على: أنه إذا تعارض العقلُ مع النقل أُخِذَ بما دلَّ عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة القول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، والطريق الثاني: تأويل النقل، مع المحافظة على قوانين اللغة؛ حتى يتَّفق معناه مع ما أثبته العقل.

وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم؛ مُهِّدتْ بين يدي العقل كلُّ سبيل، وأُزِيلتْ من سبيله جميعُ العقبات، واتَّسع له المجال إلى غير حدٍ)2

  1. قول “د. محمد عمارة” حيث يرى أنَّ العقل هو أوَّل الأدلة وأصلها: (فالعقل هو أول الأدلة، وليس ذلك فقط بل هو أصلها الذي به يُعرفُ صدقها، وبواسطته يكتسب الكتاب والسُّنة والإجماع قيمة الدليل وحجيَّته؛ لأنَّ حجيَّة القرآن متوقِّفة على حجيَّة الرسالة، وهما متوقِّفان على التصديق بالألوهية؛ لأنها مصدرها، فوجب أنْ يكون لإثبات الألوهية طريق سابق عليهما، وهذا الطريق هو برهان العقل)3.

وقال – في موضع آخر: (فإذا حدث وبدا أنَّ هناك تعارضًا بين ظاهر النص وبرهان العقل؛ وجب تأويل النص – دون تعسُّف – بما يتَّفق مع برهان العقل)4.

  1. يقول “محمد فريد وجدي”: (فإنَّ الإسلام وقد أطلق العقلَ من عقاله وأعطاه أمل سلطانه؛ كان يعلم أنَّ المسلمين سيواجهون مذاهبَ وآراء تخالف ظاهر ألفاظ الكتاب، فاحتاط العارفون بأسرار هذا الدين لهذا الأمر، فوضعوا له قاعدةً كلية في كتبهم الأصولية، وهي: أنه إذا خالف حكم العقلُ نصَّ الكتاب والسنة؛ وجب التعويلُ على حكم العقل، وتأويل ظاهر النص)5.

ثلاث وقفات مع مسألة تقديم “العقل” على “النقل”:

الوقفة الأولى:

  1.  إنَّ علماء أصول الفقه عند حديثهم عن الأدلة الشرعية، لم يشذَّ أحدٌ منهم في ترتيب الدليل، مبتدًِا بالقرآن فالسنة، إلى آخر الأدلة الشرعية المعتبرة، والمُجمع عليها عند أهل العلم قاطبة، فأين منهم مَنْ قدَّم العقل كدليل سابق على النقل؟!
  2.  وضع علماء الأصول قواعد محكمة، استخلصوها وجمعوها من استقرائهم للكتاب والسنة، من خلال هذه القواعد ضبطوا الكثير من القضايا التي يُغَبِّشُ بها علينا – بين الفينة والأخرى – أحدُهم؛ مثل: التعارض والترجيح بين النصوص، ومثل: الضرورة وحدودها، ومثل: الناسخ والمنسوخ، وهذه القواعد وتلك الأصول استعمل فيها العلماء المُعتبرون الأقيسةَ العقلية، والحُجَجَ المنطقية، وقواعد اللغة؛ لأجل استقراء النص، واستخلاص معانيه، واستخراج فقهه، وكان علم أصول الفقه وما زال علمًا عبقريًّا يُضاف إلى إنجازات الفقهاء المسلمين، وهو في مجمله علمٌ عقلي، أعلى من شأن العقل وقدره، وأطلق له العنان في “البحث والاستقصاء” ولكن في حدود ما رسمته الشريعة الغرَّاء، فجمعوا بين النص والعقل، ومزجوا بينهما مزجًا فريدًا.

الوقفة الثانية: إنَّ العقلية الإسلامية التي يحاول أصحاب الاتجاه العقلاني التَّشكيك في مَقْدِرتها وقُدْرَتها، هذه العقلية من أجْلِ قراءة النص وفهمه قد أنتجت علومًا لم يُسْمَع بها من قبل؛ فضبطوا النص ضبطًا منهجيًا، فبدايةً وثَّقوه وأكَّدوا نسبتَه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم عمدوا إلى علم الحديث بفروعه المختلفة؛ لضبط متنه، وبيان مناسبته، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، وعامِّه وخاصِّه، ومعرفة ما يُعارضه أو يُعاضده من نصوص أُخرى.

ثم أسْلَمَهُم علمُ الحديث إلى علم أصول الفقه ليتعاملوا مع هذا النَّص المُوَثَّق، فكان التعامل مع النص الحديثي؛ لاستخراج فقهه، ومعرفة مقاصده، وبيان حُكمه من خلال فروع علم الأصول المتعدِّدة والمتنوِّعة، مُستعينين في ذلك بعلوم اللغة العربية من نحوٍ وصرفٍ وبلاغةٍ، فكان هذا الجُهْد المبذول، الذي شهد له الجميع بالتَّميُّز والتَّفرُّد؛ دليلًا على عقلية علميَّة فذَّة، يحاول المُشكِّكون فيها الآن النَّيلَ منها واتِّهامها بِتَنْحِيَةِ العقل جانبًا، وكيف يكون ذلك؟ وهذا الجهد ظاهر للعيان، ولا يُنكره إلاَّ مَنْ فقد بصرَه وبصيرَتَه.

الوقفة الثالثة: الادعاء بأنَّ هناك إجماعًا على تقديم العقل على غيره لا دليل عليه، والادعاء على وجود تعارض بين العقل والنقل لا دليل عليه إلاَّ في أذهان مَنْ يقول بذلك.

وليس أدل على ما نقول: من أنَّ المستحيلات عقلًا في زمنٍ من الأزمان قد أصبحت مُمكِنات فعلًا في أزمانٍ أُخرى، ومن ثَمَّ اختلف حُكم العقل بشأنها بسبب تطوُّر الأزمان؛ كمسألة الطيران، واختراق الآفاق، والصعود إلى سطح القمر.

ومن ثَمَّ، فإنَّ رَدَّ أحاديث الفتن وأشراط الساعة، وأحاديث الغيب، لمجرَّد مخالفتها العقل أو تعارضها معه لا دليل عليه عند أصحاب هذا الاتجاه؛ لِمَا قدَّمناه من اختلاف الأحكام العقلية باختلاف الأزمنة، وأيضًا باختلاف الأمكنة والثقافة والمعرفة.

الأسلوب الثاني: التعامل مع “النصوص الشرعية” بالهوى:

سار العقلانيون في التعامل مع النصوص الشرعية على طريقة أهل الأهواء فيما يأخذون ويذرون، ومن ذلك6:

  1.  تأويل النصوص الشرعية وصرفها إلى معانٍ فاسدة توافق أهواءهم؛ مثل تأويلهم لآيات الصفات، وبعض المعجزات، ونحوها من الأمور الغيبية التي لا تقبلها عقولهم، ولا ريب أن ذلك تحريف للكلم عن مواضعه، وصرف للفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى فاسد بغير وسبب وقوعهم في هذا الانحراف هو أنهم جعلوا لعقولهم الأولويَّة في فهم النصوص الشرعية، وتركوا تفسير الصحابة والسلف الصالح وفهمهم للنصوص، وكثير من البدع إنما حدثت بسبب سوء الفهم للنصوص 7قرينة تدل عليه.

وهذه الانتقائية وقع فيها أصحابُ الاتجاه العقلاني الحديث بصورة فاضحة؛ فإذا هم يردُّون خبرا من أخبار الآحاد الصِّحاح لأنه يُخالف تصوُّرهم العقلي، ثم نجدهم يستشهدون بأحاديث ضعاف؛ بل بعضها موضوعة في مواضع كثيرة من كتبهم إذا وافقت ما ذهبوا إليه. وموضوعة في كثير من كتبهم لمجرَّد أنها تتوافق مع ما ذهبوا إلى

  1. الانتقائية في التعامل مع النصوص؛ لأنهم يأخذون ما يوافق أهواءهم وآراءهم، ويتركون أو يؤوِّلون ما يخالف ذلك، فهم لا يجمعون بين النصوص الواردة في المسألة الواحدة؛ مثل طريقة أهل البدع في التعامل مع النصوص، “فالخوارج” أخذوا بنصوص الوعيد دون نصوص الوعد فضلُّوا وأضلُّوا، و”المرجئة” أخذوا بنصوص الوعد دون الوعيد فضلُّوا وأضلُّوا، وهكذابقية الفِرق المنحرفة في أبواب شتَّى

ومن ذلك: “محمد الغزالي”، ففي الوقت الذي يردُّ فيه أحاديث صحيحة؛ كحديث الذُّبابة، وحديث اليهودي الذي سَحَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ نجده في مواطن من نفس الكتاب يستشهد بأحاديث ضعاف8 وفي غيره من كتبه الكثيرة؛ ككتاب “فقه السيرة” حيث وجدنا أمثلةً كثيرة لأحاديث ضعاف.

ومن أوضح الأمثلة في انتقائية العقلانيين المعاصرين: ما ذكره “فهمي هويدي”9 في مُعارضته لمسألة تقسيم الجهاد إلى جهاد “طلبٍ ودفع”؛ حيث استدل بالآيات التي تدعو إلى السِّلم10 بدل القتال الذي يُعطِّل رسالة التبليغ – حسب زعمه – وتَرَكَ الآيات الصريحة الآمرة بقتال الكفار11.

وهؤلاء الانتقائيون للآيات القرآنية يفعلون ذلك؛ لأنهم لا يستطيعون ردَّ هذه الآيات، وأمَّا السنة فلا يرون حرجًا في ردِّها؛ حتى حرجًا في ردِّها ولو كانت في “الصحيحين” بحجج واهية؛ منها أنها أحاديث آحاد لا تفيد اليقين، أو أنها من السنة غير التشريعية، أو أنها لا تتَّفق مع القرآن، أو أنها تتعارض مع العقل، ونحو ذلك من التأويلات الفاسدة التي يردون بها الأحاديث الصحيحة التي لا تُضاهي ما قرَّروه سلفًا بعقولهم.

وهذه الانتقائية تُخالف المنهج العلمي الصحيح؛ إذ من ضرورات المنهج الصحيح أن تُتَتَبَّع كلُّ جزئيات المسألة ثم تُجمَع؛ كي تتَّضح الصورة كاملة، وتصبح النتيجة المبنية عليها نتيجة صحيحة لا تحتمل شكًّا أو ردًّا.

الأسلوب الثالث: الاستدلال بالأحاديث “الضعيفة والموضوعة”:

أصحاب المنهج العقلاني لا يقبلون من السُّنة إلاَّ ما تواتر منها، وإذا تعارض المتواتر مع المسلَّمات العقلية لديهم؛ فإنهم إمَّا يُؤوِّلونه12 أو يُفوِّضونه13.

وأما أحاديث الآحاد فقد ردَّها كثير منهم؛ كما ردَّها المعتزلة من قبلهم، وطعنوا فيها؛ لأنها – في ظنهم – تفيد الظنَّ، فلا مجال للظن في أمور العقيدة14.

وبالرغم من أن أصحاب المنهج العقلاني يَرُدُّون أحاديث الآحاد؛ إلاَّ أنهم يستدلون بالأحاديث الباطلة والموضوعة إذا وافقت أهواءهم وأيدت أقوالهم، وهذا يدل على تناقضهم واضطرابهم ومخالفتهم لما وضعوه من قواعد؛ حيث لم يلتزموا بها، ومما يدل على ذلك:

  1.  يزعم “فهمي هويدي” أن هذا الحديث يحل مشكلة تعارض النصوص15: “إِذا رُوِيَ عني حَدِيث فاعرضوه عَلَى كتاب الله، فَإِن وَافق فاقبلوه، وَإِن خَالف فَردُّوهُ”16.
  2.  يستدل “مصطفى الشكعة” على تقديس الإسلام للعقل؛ بِعدَّة أحاديث يدَّعي أنها “صحيحة” ومن ذلك، قوله: (ففي الحديث الصحيح: “ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى الهدى، ويرده عن الردى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله”17 وفي الحديث الصحيح أيضًا: “لكل شيء دعامة، ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته1819.
  3.  استدلال “محمد الغزالي” بأحاديث “موضوعة” ومنها قوله: (وهؤلاء يصدق عليهم ما رواه “ابن الجوزي” بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: “أنه دخل على عائشة رضي الله عنها فقال: يا أم المؤمنين! الرجل يقل قيامه؛ ويكثر رقاده، وآخر يكثر قيامه؛ ويقل رقاده، أيهما أحب إليك؟ فقالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني؛ فقال: “أحسنهما عقلًا، فقلت: يا رسول الله! أسألك عن عبادتهما؟ فقال: يا عائشة! إنما يسألان عن عقولهما، فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة20)21.
  4.  في كتابه “أضواء على السنة المحمدية” يورد “محمود أبو رية” أحاديث ضعيفةً وواهيةً وموضوعة؛ لِيقرِّر ما لديه من شبهات وضلالات، وفي الوقت ذاته يَرُدُّ الأخبارَ والأحاديثَ الثابتة؛ المخالفة لمنهجه وهواه، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: طعنه في أبي هريرة رضي الله عنه، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “زر غبًا؛ تزدد حبًّا”22 وادَّعى – زورًا وبهتانًا – بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك؛ لأنه كان يغشى بيوت الصحابة في كل وقت.23

ويدَّعي – كَذِبًا – أنَّ النبي حثَّ على عَرْضِ السُّنة على القرآن؛ كما في قوله: (“إنَّ الأحاديث ستكثر بعدي؛ كما كثرت عن الأنبياء قبلي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافقه كتابُ الله؛ فهو عني قلته، أو لم أقله”24)25.

يقول الشيخ “عبد الرحمن المعلمي” عن “أبي رية” وكتابه “أضواء على السنة المحمدية”: (ونجده يحتجُّ كثيرًا بأقوال لا يعتقد صحَّتَها؛ بل قد يعتقد بطلانها، ولكنه يراها موافقةً لغرضه، ويُحاول إبطال أحاديث صحيحة بشبهات ينتقل الذهن فور إيرادها إلى ورودها على آيات من القرآن)26.

أئمة الإسلام يحذِّرون من طريقة المبتدعة في الاستدلال: إنَّ لجوء أهل الأهواء والبدع وأصحاب الآراء المسبقة والتَّحيُّزات الفكرية إلى ترك ما يُخالفهم؛ وإنْ كان صحيحًا ثابتًا، والأخذ بما يُوافقهم؛ وإنْ كان ضعيفًا أو موضوعًا؛ يُعتبر مسلكًا خطيرًا في التعامل مع النصوص، والكيل بمكيالين؛ مكيال الرفض من أجل الرفض، ومكيال القبول من أجل الرغبة في الدليل، وهذا الاتجاه بلغ من خطورته أنْ يَرُدَّ أحاديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة، ويقبل منها الموضوع المُتَّفق على وضعه.

بل نجدهم يحتجُّون بأقوال الفلاسفة القُدامى؛ من اليونان والرومان، الذين بَعُدوا عن زمانهم بآلاف السنين، وقد ورَدَتْ أقوالُهم دون توثيق أو تحقيق، فيقبلونها ويَعُدُّونها مُسَلَّمات، بينما إذا كان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهنا، وهنا فقط نجد العلمية عندهم تحرَّكت؛ لِتَرُدَّ ما هو ثابت بالعقل، وليس لديهم حُجَّةٌ سوى مخالفته العقلَ – في زعمهم!

وقد حذَّر الأئمة من هذا المسلك الخطير، ومن ذلك قول ابن تيمية رحمه الله: (وَأَمَّا أَهْلُ الأهْوَاءِ وَنَحْوُهُمْ: فَيَعْتَمِدُونَ عَلَى نَقْلٍ لا يُعْرَفُ لَهُ قَائِلٌ أَصْلًا؛ لا ثِقَةٌ وَلا مُعْتَمَدٌ. وَأَهْوَنُ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ الْكَذِبُ الْمُخْتَلَقُ. وَأَعْلَمُ مَنْ فِيهِمْ لا يَرْجِعُ فِيمَا يَنْقُلُهُ إلَى عُمْدَةٍ؛ بَلْ إلَى سماعاتٍ عَنْ الْجَاهِلِينَ، وَالْكَذَّابِينَ، وَرِوَايَاتٍ عَنْ أَهْلِ الإفْكِ الْمُبِينِ)27.

ويقول الشاطبي رحمه الله – مبينًا أن من طرق أهل البدع في الاستدلال: (ردُّهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدَّعون أنها مُخالِفة للمعقول، وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردُّها؛ كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية الله عز وجل في الآخرة. وكذلك حديث الذباب وقتله، وأنَّ في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواء، وأنه يُقدِّم الذي فيه الداء. وحديث: الذي أخذ أخاه بطنُه فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بسقيه العسل، وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول)28.

ويصف ابن القيم رحمه الله حالَ هؤلاء المفكرين وأمثالِهم من المُتعصِّبين لآرائهم، والمُحكِّمين عقولَهم في النصوص الشرعية، بأنهم: (نظروا في السُّنة؛ فما وافق أقوالَهم منها قَبِلوه، وما خالفها تحيَّلوا في ردِّه أو ردِّ دلالته، وإذا جاء نظيرُ ذلك أو أضعَفُ منه سندًا ودلالة؛ وكان يوافق قولَهم؛ قَبِلوه ولم يَسْتَجِيزوا ردَّه، واعترضوا به على مُنازعيهم، وأشاحوا، وقرَّروا الاحتجاج بذلك السَّندِ ودلالتِه، فإذا جاء ذلك السَّندُ بعينه أو أقوى منه؛ ودلالتُه كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلافِ قولِهم؛ دفَعُوه ولم يَقْبَلوه)29.

  1. انظر: تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر، (ص 230). ↩︎
  2. الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، د. محمد عمارة (3/ 301-302). ↩︎
  3. تيارات الفكر الإسلامي، د. محمد عمارة (ص 70). ↩︎
  4. الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية، د. محمد عمارة (ص 16). ↩︎
  5. الإسلام دين الهداية والإصلاح، محمد فريد وجدي (ص 64). ↩︎
  6. انظر: تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر، (ص 245). ↩︎
  7. انظر: منهج التلقي والاستدلال بين أهل السنة والجماعة والمبتدعة، (ص 48). ↩︎
  8. انظر: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، (ص 76). وللاطلاع على مزيدٍ من الردود على كتابات “الغزالي”؛ انظر: جناية الشيخ محمد الغزالي على الحديث وأهله، أشرف بن عبد المقصود؛ الغزالي والسنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث نظرات وملاحظات، منذر أبو شعر. ↩︎
  9. انظر: مواطنون لا ذميون، فهمي هويدي (ص 233-234). ↩︎
  10. تأمل الآيات التالية: [البقرة: 190، 208]؛ [النساء: 90]؛ [الأنفال: 61]؛ [التوبة: 7]. ↩︎
  11. تأمل الآيات التالية: [التوبة: 29، 123]؛ [التحريم: 9]. ↩︎
  12. (التأويل): هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بقرينة، واتفق السلف على ذم هذا النوع من التأويل؛ لمخالفته لما يدل عليه اللفظ ويبينه. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 68)؛ شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز (ص 231). ↩︎
  13. (التفويض): هو صرف اللفظ عن المعنى المراد، مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد منه، بل يُترك ويُفوَّض عِلمُه إلى الله تعالى، بقولهم: الله أعلم بمراده. انظر: مجموع الفتاوى، (5/ 28). ↩︎
  14. انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (2/ 183). ↩︎
  15. انظر: القرآن والسلطان، فهمي هويدي (ص 37). ↩︎
  16. أورده الصاغاني في (الموضوعات)، (ص 76) وقال: (موضوع)؛ والعجلوني في (كشف الخفاء)، (1/ 86): (2/ 423) وقال: (لم يثبت فيه شيء، وهذا الحديث من أوضع الموضوعات). ↩︎
  17. أورده ابن حجر في (المطالب العالية)، (3/ 20)، (رقم 2765) وقال: (موضوع). ↩︎
  18. أورده ابن حجر في (المطالب العالية)، (3/ 14)، (رقم 2746) وحكم بأنه (موضوع)؛ وابن عراق في (تنزيه الشريعة)، (1/ 215)، (رقم 93) وحكم بأنه (موضوع)، وقال ابن القيم في (المنار المنيف في الصحيح والضعيف)، (ص 66): (أحاديث العقل كلها كذب). ↩︎
  19. المطالعات الإسلامية في العقيدة والفكر، مصطفى الشكعة (ص 18). ↩︎
  20. أورده ابن الجوزي في (الموضوعات)، (1/ 176) وقال: (لا يصح)؛ وابن حجر في (المطالب العالية)، (3/ 14)، (رقم 2745) وحكم بأنه (موضوع)؛ وابن عراق في (تنزيه الشريعة)، (1/ 176) وحكم بأنه (موضوع)؛ ↩︎
  21. الجانب العاطفي في الإسلام، محمد الغزالي (ص 12). ↩︎
  22. أورده ابن الجوزي في (العلل المتناهية)، (2/ 741)، (رقم 1238)؛ والعقيلي في (الضعفاء)، (2/ 138)؛ وابن عدي في (الكامل في الضعفاء)، (2/ 448). ↩︎
  23. انظر: أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو رية (ص 172). ↩︎
  24. أورده الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)، (13/ 658) وقال: (صرح بعض أئمتنا بأنه حديث باطل، من وضع الزنادقة). ↩︎
  25. انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 72). ↩︎
  26. الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (ص 23). ↩︎
  27. مجموع الفتاوى، (27/ 479). ↩︎
  28. الاعتصام، (1/ 171). ↩︎
  29. إعلام الموقعين، (1/ 76). ↩︎
المصدر
الألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى