أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” (5)
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” ما يلي:
الأسلوب السادس: نقد متون الأحاديث:
من أساس دعوة الحداثيين العرب إعادة نقد السنة وَفق أساليب النقد الداخلي (نقد المتن) دون النظر إلى الإسناد، ويدَّعون (نقد الأحاديث بميزان جديد يقوم على أساس سلامة ومعقولية المتن ذاته، لا على أساس سلامة الرواة)1، ويظنون أو يُروِّجون إلى أنَّ صنيعهم هذا يحل إشكالات كثيرة، (معيار الصحة هو المتن وليس السند؛ لأنَّ هذا سيجعل المعنى هو الفَصْل، وبهذا يكون حديث آحاد مثل “الأعمال بالنيات” أو “لا ضرر ولا ضرار” أفضل وأثبت من كلِّ الأحاديث المتواترة من شقِّ الصدر أو حنين الجذع أو المهدي وهذا ما يُخلِّصُنا من إشكال أحاديث الآحاد)2، ومن أساليب أهل الحداثة في نقد متون الأحاديث ما يلي3:
- الزعم بأنَّ النقد الخارجي (الإسناد) يقوم على السمع؛ بينما يعتمد النقد الداخلي (المتن) على العقل، وهو مقدَّم على السمع، ومنهم مَنْ يزعم أنَّ عقل الإنسان قادر على تحدِّي النبوة؛ لأنَّ العقل – عند الحداثيين – أساس المعارف، وها هو أحدهم يدَّعي بأنه: (يستحيل أنْ يكون السمع أساس العقل؛ لأنَّ الأدلة والبراهين عقليةٌ خالصةٌ لا سمع فيها، كما أنَّ معرفة الحُسْن والقُبْح واردة قبل السمع، وقد أمكن إدراك التوحيد والعدل بالعقل، وهما البابان الرئيسان في العقليات وهي الإلهيات.. بل إنَّ الإنسان بعقله قادر على تحدِّي النبوة مثل قدرة الشيطان الذي طلب الاستمهال فاستُمهِل، ولمَّا كانت النبوة ترتكز على العقل فلا خوف من تحدِّي العقل للنبوة)4، وهذه الدَّعوى إنما هي تَكرار لمزاعم المعتزلة، الذين قدَّموا العقلَ على النَّقل، ونرد عليهم بما يلي:
- أ- هل تستطيعون بالعقل وحده الوصول إلى اللهِ الحقِّ؟! وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا أرسل اللهُ سبحانه الرُّسل؟! وما الحكمةُ المُتحقِّقة إذن من إرسالهم؟!
- ب- هل تستطيعون بالعقل وحده معرفةَ فرائض الإسلام ومعرفةَ حدوده وأركانه؟!
- ممَّا لا شك فيه أنَّ مثل هذه الأمور لابد فيها من السَّماع ولابد فيها من الواسطة، وهي النبوة، ودور العقل يأتي بعد ذلك، فالسَّماع سابق على العقل لا محالة.
- وعندما استخدم الشيطانُ عقلَه – الذي تستدلون بموقفه – شطَّ وضلَّ وخرج عن المطلوب منه، فاستحقَّ عقابَ الله تعالى له بالخلود في النار. فانظروا كيف فعل العقلُ المُجرَّدُ بصاحبه، أرْداه وأهلَكَه.
- ومنهم مَنْ يزعم أن الأسانيد لا يُعول عليها، ولا تُثبِتُ علمًا؛ لأنها وهمية وَضَعها إمام المُحدِّثين الزهري، (فقد طغت على الزهري صفة المُحدِّث، بل لعله هو صانع الحديث جملةً من المدينة؛ أي واضعه لا أكثر ولا أقل، فالأسانيد وهمية… ولا يعني هذا أنَّ الخبر في حد ذاته ليس بصحيح أو قريبًا من الصحة؛ لأنَّ الأسانيد تعطي فقط ضمانة للمادة)5، ولذا (لا يُمكن التعويل عليها في الأغلب)6.
- ومنهم يُصرِّح أن النقد الخارجي (الإسناد) يحمل سطحيةً في التفكير وسذاجةً في النقد؛ لأنَّ (النقد الخارجي أو نقد التحصيل، لا يُثير غير الازدراء في نفس عامة الجمهور الغليظ السَّطحي، وبعض الذين يقومون به مستعدُّون على العكس من ذلك لتمجيده)7.
- بل (يُخيِّل إلى المرء أن يتبنَّى لأول نظرةٍ ما إذا كان المؤلِّف أمينًا أو ما إذا كانت الرواية دقيقةً، وهذا ما يُسمَّى بـ “لهجة الأمانة” أو “انطباع الشعور بالحقيقة” وهو انطباع لا يكاد من الممكن مقاومته، لكنه مع ذلك وَهْم، فليس ثم معيار خارجي للأمانة ولا للدقة.. والخطيب والممثِّل والكذَّاب المعتاد على الكذب أقدر على الظهور بهذا المظهر.. فقوة التوكيد لا تدل دائمًا على قوة الاقتناع، بل على المهارة أو الوقاحة)8، وواللهِ، ما رأيتُ وقاحةً مثل هذه، فهذا جاهل جهلًا مُركَّبًا، يدَّعي العلمَ والعلمُ منه براء، فانظر إليه، هو لا يُدرك – ابتداءً – أصولَ وقواعدَ الجرح والتعديل، ولا قواعد وأصول علم الإسناد، ولا يعلم الأُسس والمعايير والشروط والضوابط التي وضعها العلماءُ لصيانة الإسناد ومعرفة أكان صاحبُه كاذبًا أم لا؟
- فكان الأَولى به وبِمِثْلِه أنْ يذهبوا إلى العلماء ويجلسوا بين أيديهم؛ لِيَتَعلَّموا العلمَ، كي يستطيعوا أنْ يُناقشوا أو يُحاجِجوا، ولكنهم – للأسف – اعتمدوا على مراجع عامة، وعلى آراء المُستشرقين، وأعداء الدِّين، مع ضآلةِ ثقافتهم وقلة بضاعتهم، فجعلوا من أنفسهم أبواقًا لهم يُردِّدون مقالاتهم، ويُردِّدون شبهاتهم دون وعي أو فهم.
- ومنهم مَنْ يزعم أنَّ منهج النقد الخارجي (الإسناد) لدى المُحدِّثين متعلِّق بمصالح اقتصادية وسياسة واجتماعية فُرِضَتْ عليها من السلطة، وبسبب ضيقِ أُفُقِ جُمَّاع الحديث، والانغلاق العقلي، وبُعدهم عن الحياد العلمي، فيقول: (عَكَسَ المُحَدِّثون معاييرهم النقدية المتناثرة بمصالحهم الاقتصادية، وولاءاتهم السياسية، وانتماءاتهم المذهبية، ودرجة ثقافتهم على هذه الجهود بصورة سلبية، وحسبنا حُكْم “الذهبي” بأنه “لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيقِ ضعيفٍ، ولا على تضعيفِ ثقة”9)10.
- فلا يمكن الوثوق بالنقد الخارجي (الإسناد) الذي اتَّبعه أهل الحديث؛ بسبب (تصدُّع المنظومة الأصولية القديمة، وعدم قدرتها على الصُّمود تحت وطأة الثورات الصناعية والتقنية والإعلامية، وما يشهده العالَم من تحوُّلات في القيم ووسائل المعرفة، فلم يعد باستطاعة المؤمن في عصرنا أن يطمئن إلى معايير القدامى.. ذلك أنها كانت محكومةً بثقافةِ أصحابها ومدى اطلاعهم على منجزات العلوم الإنسانية، وبالخصوص على مقتضيات المنهج التاريخي وما يتطلبه هذا المنهج من صرامة، ومن مسافة تفصل الباحث عن النص مهما قدَّسَتْهُ الممارسة الإسلامية)11.
الأسلوب السابع: نقد السنة بعرضها على القرآن:
نادى الحداثيون بضرورة عرض السنة على القرآن الكريم، وأنه حكم عليها بحيث لا يُقبل أيُّ حديثٍ إلاَّ بعد عرضه على آيات القرآن الكريم؛ فإنْ وافقها قُبِل، وإنْ عارضها لم يُقبل، ويهدف الحداثيون من وراء هذه الدعوة إلى أهدافٍ في غاية الخطورة.
أهداف الحداثيين من عرض السُّنة على القرآن:
يهدف الحداثيون من عدم قبول السُّنة إلاَّ بعد عرضها على القرآن، وجعل ذلك هو المعيار الوحيد لقبول السُّنة، إلى تحقيق أهدافٍ بعينها، ومنها12:
- إلغاء كل الأحاديث التي تناولت الغيب؛ بدءًا من الموت ومرورًا بيوم القيامة وانتهاءً بدخول الجنة والنار؛ بدعوى معارضتها صريح القرآن في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [النمل: 65].
- إلغاء كل الأحاديث التي تُفسِّر ما ورد مُبهمًا في القرآن، والأحاديث الواردة في أسباب النزول؛ لأن الله تعالى أرادها مُبهمةً، ولم يُذكر معناها في القرآن أو أسباب نزولها.
- إلغاء كل الأحاديث التي تُخالف أصولًا قرآنية قاطعة؛ كالآيات التي يُذكر فيها العدلُ، والمسؤوليةُ الفردية، وأنه لا تزر وازرة وزر أُخرى.
- إلغاء كل الأحاديث التي تُثبت فضائل لبعض الأعمال والأشخاص والهيئات؛ لأن التفاضل جاء في القرآن بمقياس التقوى فقط.
- إلغاء كل الأحاديث التي تُنافي حرية الاعتقاد، وحرية الفكر؛ لأنه ﴿ لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]. وفي القرآن: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29].
- إلغاء كل الأحاديث التي ذُكِرتْ فيها معجزاتُ النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن؛ لأن معجزته هو القرآن بنص الآيات القرآنية.
- إلغاء جميع الأحاديث الخاصة بالمرأة التي لم ترد في القرآن الكريم؛ كخلقها من ضلع أعوج، ومسائل الزواج والطلاق والعتاق، وأمور نكاح الرقيق، والفيء والغنائم؛ لأنها مرحلة خاصة انتهت.
- الأحاديث التي تتحدث عن واقع الحياة اليومية في جزيرة العرب غير مُلزِمة؛ كأحاديث الأكل والشرب واللباس والنوم والمحادثة والمصافحة ونحوها؛ لأنها لم تُذكر في القرآن؛ بل هي جزء من التاريخ.
إنَّ من أعظم أُمْنِيات دعاة الحداثة إقصاء السنة النبوية وإبعادها عن واقع الحياة، وأنها لا تُعد صالحة لهذا الزمان؛ ليؤول الأمر إلى تعطيل السنة النبوية والاكتفاء بما ورد في القرآن الكريم، وها هم يُصرِّحون بهذه الأماني: (سيجعلنا نستبعد قرابة “نصف الأحاديث” المتداولة بين الناس… إنَّ هذه الألوف من الأحاديث هي نتيجة ركوب الصعب والذلول.. فلا غضاضة في استبعادها أو عدم إعمالها أو التوقف فيها)13، و(لا يمكن تحقيق أيِّ إحياءٍ إلاَّ بالعودة رأسًا إلى القرآن الكريم… وضبط السُّنة بضوابط القرآن، وعدم التَّقيد بما وضعه الأسلاف؛ من فنونٍ، واجتهادات ومذهبيات تأثَّروا فيها بروح عصرهم، وسيادة الجهالة، واستبداد الحكَّام، وصعوبات البحث والدَّرس)14، وادَّعوا كذلك أنَّ (كلَّ ما يتعلَّق بسيرة محمدٍ [صلى الله عليه وسلم] يجب أن يُعرض على القرآن؛ فما وافق كان حقًّا، وما لم يُوافقه لم يكن بحق)15، وزعموا أنَّ (القرآن هو المصدر التاريخي المعتمد الصحيح؛ لأنه يرمز إلى ماهيَّة الوحي والظروف التي حفَّت ببدئه وتواصله، ولا يدخل في التفاصيل الدُّنيوية الفارغة)16، وهم بذلك يلمزون السُّنة النبوية؛ لأنها هي التي فصَّلت وبيَّنت ما أُجمل في القرآن؛ بل أنشأت أحكامًا وآدابًا وتشريعات مُستقلَّة لم ترد في القرآن الكريم.
إذًا؛ (الأحاديث التي لا يستطيعون الطعن فيها فسبيل تجميدها هو القول بعرضها على القرآن، فإن جاءت بِحُكم ليس في القرآن لا يُلْتَزم به… ومن الطبيعي أنَّ أيَّ تعطيلٍ لدور الحديث في التشريع تعطيلٌ لدور القرآن في التشريع أصلًا؛ لأنَّ فهمه يتوقَّف عليه؛ لذا حاول أعداء الإسلام توجيه السِّهام إلى الحديث للتَّشكيك فيه حتى يسهل لهم بالتالي تعطيل دور القرآن أيضًا في الأحكام والتشريع)17.
وبتطبيق هذه الضوابط والمعايير الحداثية يُلغى قرابةُ “ألفي حديث” منها ما هو في الصحيحين وغيرهما من كتب السُّنة الثابتة.
الأدلة على استقلال السُّنة بتشريع الأحكام: ولا نزاعَ بين علماء المسلمين في أنَّ كُلًا من القرآن والسنة وحي من عند الله تعالى، وأنَّهما المصدران الوحيدان لهذه الشريعة، وينبوعها الذي تتفجَّر منه، وأنَّ ما سواهما من أدلةٍ ـ مهما تنوَّعت وتعدَّدت ـ راجعة إليهما، ومستوحاة منهما.
والقرآن الكريم والسنة الشريفة مصدران يشد أحدهما الآخر، ولا ينفك عنه في إثبات أكثر الأحكام، ومع ذلك يريد دعاة الحداثة أن لا يقبلوا السُّنة إلاَّ بعد عرضها على القرآن؛ فكيف تُعرض السنة على القرآن وهي المُبيِّنة والمخصِّصة والمقيِّدة والناسخة – أحيانًا – لآيات القرآن الكريم؛ بل إنَّ السنة استقلت بتشريع أحكامٍ لم ترد في القرآن، وهو قول جمهور العلماء18.
ومن أهم الأدلة على استقلال السنة المطهرة بتشريع الأحكام ما يلي:
- عموم عصمته صلى الله عليه وسلم عن الزيغ والخطأ في التبليغ لكلِّ ما جاء به عن ربه، بأيِّ طريق من طرق الوحي، ومنه السنة التي جاءت مثبِتة ومُنشِئة لأحكامٍ سكت عنها القرآن19.
- عموم الآيات القرآنية الدالة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما يأمر وينهى، التي لم تُفرِّق بين السُّنة المُؤكِّدة أو المُبيِّنة أو المُستقِلَّة، وهي آيات كثيرة تفيد القطع بعمومها للأنواع الثلاثة، وعدم إخراج السُّنة المُستقِلَّة منها.
- عموم الأحاديث الدالة على حُجيَّة السنة، ولم تُقيِّدها بنوعٍ مُعيَّن. ومنها أحاديث تدل صراحةً على أنَّ في السنة ما ليس في الكتاب، يجب الأخذ بها كما يؤخذ بما في الكتاب20؛ من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ! فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ! وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ!)21.
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي؛ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لاَ نَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ!)22.
- قال ابن القيم رحمه الله: (أَحْكَامُ السُّنَّةِ التي لَيْسَتْ في الْقُرْآنِ إنْ لم تَكُنْ أَكْثَرَ منها، لم تَنْقُصْ عنها، فَلَوْ سَاغَ لنا رَدُّ كلِّ سُنَّةٍ زَائِدَةٍ كانت على نَصِّ الْقُرْآنِ لَبَطَلَتْ سُنَنُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهَا إلاَّ سُنَّةً دَلَّ عليها الْقُرْآنُ، وَهَذَا هو الذي أَخْبَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ سَيَقَعُ، ولابد من وُقُوعِ خَبَرِهِ)23.
- إذًا؛ فمثل هذه الأحاديث تدل بوضوح على أنه يوجد في السنة أحكام ليست موجودة في القرآن، (وهو نحو قول مَنْ قال من العلماء: ترك الكتابُ موضِعًا للسنة، وتركت السنةُ موضِعًا للقرآن)24.
- دلَّ الاستقراء على أن في السنة أشياءَ لا تُحصى كثرة لم يُنَصَّ عليها في القرآن؛ كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السِّباع25.
- الاقتصار على القرآن وحده من صفات المنافقين الخارجين عن السُّنة، فهم قوم لا خلاق لهم إذ ادَّعوا أنَّ في الكتاب بيان كل شيء، فطرحوا أحكامَ السنة وهجروها، فأدَّى بهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة، وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله26، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منهم في قوله: (إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اثْنَتَيْنِ: الْقُرْآنَ وَاللَّبَنَ، أَمَّا اللَّبَنُ فَيَبْتَغُونَ الرِّيفَ، وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَيَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ فَيُجَادِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِين)27. وقوله صلى الله عليه وسلم: (هَلاَكُ أُمَّتِي في الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ). قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ! ما الْكِتَابُ وَاللَّبَنُ؟ قال: (يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ فَيَتَأَوَّلُونَهُ على غَيْرِ ما أنْزَلَهُ اللهُ، وَيُحِبُّونَ اللَّبَنَ فَيَدَعُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعَ وَيَبْدُونَ)28.
والمُلاحَظ: أنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه القائل بعَرْضِ السُّنة على القرآن، قد كثروا وتعدَّد نتاجُهم حتى أصبحوا يُشكِّلون اتِّجاهًا فكريًّا واضِحَ المعالِم وإنْ كان ما يزال في طور التَّكوين، وقد سمُّوا أنفسهم “القرآنيون”؛ لِيَتوهَّم مَنْ يسمع عنهم أنهم إنما يُنصِفون القرآن ويُدافعون عنه ويحفظونه.
والحقيقة: أنهم بدعوتهم هذه إنما يجنون على القرآن ويُضَيِّعونه؛ إذ إنهم بالتَّفريق بينه وبين السُّنة الشارحة له والمُفسِّرة والمُبيِّنة لأحكامه، إنما يُعطِّلونه ويُقصونه عن الحياة.
والحقيقة الأخرى: هي أنهم لا يعبئون لا بالقرآن ولا بالسُّنة؛ وإنما يريدون التَّفلُّت من كلِّ قيدٍ؛ لِيَحيوا حياتهم الدنيا بلا ضابط ولا رابط، ويسعون إلى فصل الدِّين عن الدنيا، ولكن جعلوا دعوتهم هذه مُغَلَّفة بغلاف الإصلاح، ومزركشة بزينة حفظ القرآن وصيانته، فمَثَلُهم في كتاب الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأِرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلآ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11-12]. فالنفاق عقيدتهم، والحقد صفتهم، والعداوة سبيلهم، فكفانا الله شرَّهم بما شاء، وردَّ كيدَهم في نُحورهم.
يُتبع.
- النص القرآني أمام إشكالية البِنيَة والقِراءة، طيب تيزيني (ص 331). ↩︎
- نحو فقه جديد، جمال البنا (2/ 118). ↩︎
- انظر: الحداثة وموقفها من السنة، د. الحارث فخري عيسى عبد الله (ص 248). ↩︎
- التراث والتجديد من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي (4/ 40). ↩︎
- تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، هشام جعَيْد (ص 37). ↩︎
- المصدر نفسه، (ص 271). ↩︎
- المدخل إلى الدراسات التاريخية، (ص 86). ↩︎
- المصدر نفسه، (ص 126). ↩︎
- عبارة الذهبي صحيحة، وفيها إعلاء للحديث وأهله؛ لأنه لم يُخطئ اثنان من نقَّاد الحديث في الحكم على راوٍ حقيقته الضعف أو توثيق راوٍ حقيقته الضعف، لكنَّ الحداثيين استعملوها في معرض ذم أهل الحديث ووصفوهم بسوء الفهم وقلة الإدراك. ↩︎
- التراث وقضايا العصر، (ص 50). وانظر: النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 62). ↩︎
- الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 349). ↩︎
- انظر: نحو فقه جديد، (2/ 249-256)، (3/ 280)؛ الحداثة وموقفها من السنة، (ص 263). ↩︎
- نحو فقه جديد، (2/ 248). ↩︎
- تفنيد دعوى حد الردة {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، جمال البنا (ص 130). ↩︎
- حياة محمد، (ص 64). ↩︎
- السيرة النبوية الوحي والقرآن والنبوة، (ص 18). ↩︎
- المستشرقون والحديث النبوي، (ص 23). ↩︎
- انظر: الرسالة، للشافعي (ص 91-93). ↩︎
- انظر: منزلة السنة من الكتاب وأثرها في الفروع الفقهية، (ص 484). ↩︎
- انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، (ص 381). ↩︎
- رواه أحمد في (المسند)، (4/ 130)، (ح 17213)؛ وأبو داود، (4/ 200)، (ح 4604). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 117)، (ح 4604). ↩︎
- رواه الشافعي في مسنده، (ص 233)؛ وأبو داود، (4/ 200)، (ح 4605)؛ والترمذي، (5/ 37)، (ح 2663) وقال: (حسن صحيح). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 118)، (ح 4605). ↩︎
- إعلام الموقعين، (2/ 309). ↩︎
- الموافقات، (4/ 17). ↩︎
- المصدر نفسه، (4/ 16). ↩︎
- انظر: الموافقات: (4/ 17). ↩︎
- رواه أحمد في (المسند)، (4/ 155)، (ح 17457)؛ والطبراني في (الكبير)، (17/ 296)، (817). وحسنه محققو المسند، (28/ 636)، (ح 17421). ↩︎
- رواه أحمد في (المسند)، (4/ 155)، (ح 17451)؛ وأبو يعلى في (مسنده)، (3/ 285)، (ح 1746)؛ والبيهقي في (شعب الإيمان)، (3/ 104)، (ح 3009). وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (6/ 647)، (ح 2778). ↩︎