أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” (7)
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” ما يلي:
الأسلوب التاسع: الاستشهاد بالضعيف والموضوع:
من أساليب أهل الحداثة في التعامل مع السنة النبوية والاستخفاف بنصوصها الاستشهاد بالأخبار والروايات الغريبة والشاذة والضعيفة والمنكرة والموضوعة؛ لتعزيز منهجهم الحداثي وتسويغ أقوالهم والتدليل لمذهبهم وأفكارهم المنحرفة، واعتبار أنَّ ذلك هو القول المشهور الذي عليه عامة علماء الإسلام؛ سواء كان ذلك في التفسير أو الحديث أو السيرة والتاريخ..
فهؤلاء الحداثيون العرب يبحثون ويُنقِّبون عن (الأخبار والآراء التي ذَكَرَها قدماء المفسِّرين على أساس أنها أفكار شاذَّة لا تُتْبَع، أو شبهاتٌ زائفة لا يُوقف عندها، أو زلاَّت عابرة لا يُتَعَلَّق بها، فجعلوا منها حقائقَ جوهريةً حكَّموها في الأقوال المشهورة والأصول المقرَّرة، وبنوا عليها أحكاماً جَمَعَتْ إلى الفسادِ في الاستنتاج الإغرابَ في المضمون)1.
نماذج من استدلال الحداثيين بالشاذ والموضوع:
لا تكاد تقف على كتاب من كتب دعاة الحداثة إلاَّ ويهولك الأمر من مضمون الكتاب، وما فيه من النماذج المتكاثرة على الاستدلال بالشاذ والضعيف والموضوع؛ بل الاحتجاج بأقوال المستشرقين، ومن قبلهم الفلاسفة القُدامى؛ من اليونان والرومان، والذين بَعُدوا عن زمانهم آلاف السنين، وقد ورَدَتْ أقوالُهم دون توثيق أو تحقيق، فيقبلونها ويَعُدُّونها مُسَلَّمات، وهذا من العجب العُجاب، ومن نماذج استدلالهم ما يلي2:
- 1- استدلالهم بأحاديث العقل الموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها:
- حديث “العقل القامع” الذي يُبجِّل العقل ويجعله دعامةً للمعرفة في الإسلام، وهو مُقَدَّم على الشريعة، وهو حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ دعامة البيت أساسه، ودعامة الدين المعرفة بالله تعالى، ودعامة المعرفة اليقين والعقل القامع. قلت: بأبي أنت وأمي: ما العقل القامع؟ قال: الكف عن المعاصي، والحرص على طاعة الله)3 .وسبقت الإشارة إلى أنَّ ابن القيم رحمه الله قال: (أحاديث العقل كلها كذب)4.
- استدلالهم بالروايات التي يُذكر فيها نهي النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عن تناقل الحديث وروايته، دون الأحاديث الآمرة بالكتابة.
- استدلالهم بالروايات التي يُذكر فيها وقوع التحريف في القرآن الكريم، أو التشكيك في جمعه، وأنه لم يُجمع كاملاً.
- استدلالهم بالروايات الداعية إلى عرض السُّنة على القرآن.
- استدلالهم بقصة “الغرانيق”؛ للتدليل على أنَّ الشيطان ينفذ إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم وإلى نفسه، وله مدخل في التنزيل والوحي، مما يُبطل صلاحية الحديث النبوي للتشريع، ويُبطل صحة القرآن، ويُثبت احتمال خطأ النبي في تبليغ التنزيل.
- فقد ادَّعى أحد الحداثيين قائلاً: (لقد حَدَثَ أنْ تمنَّى محمدٌ البَشَر أن ينهي الحربَ مع قومه الكفرةِ من المكيين؛ ذلك لأنه كان حريصاً على صلاح قومه محِبًّا مُقاربتهم.. كما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تولِّي قومِه عنه.. تمنَّى في نفسه أن يأتيه من الله ما يُقارب بينه وبين قومه، وكان يَسُرُّه مع حبِّه قومَه وحرصه عليهم أنْ يلين له بعضُ ما قد غَلُظَ عليه من أمره حتى حدَّث بذلك نفسَه وتمنَّاه وأحبَّه، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴾ [النجم: 1] فلمَّا انتهى إلى قوله: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ﴾ [النجم: 19، 20] ألقى الشيطانُ على لسانه لِمَا كان يُحدِّث به نفسَه ويتمنَّى أنْ يأتيه به قومُه: “تلك الغرانيق العُلا وإنَّ شفاعتهم لتُرتجى” فلمَّا سمعت ذلك قريشٌ فرحوا… إنَّ محمداً لم يتمكَّن من الكشف عن ذلك الهدف الخبيث، فظلَّ إبليس الشيطان في عمله الشرير… وقد استطاع أن ينفذ إلى شخصية نبي الأنبياء وحبيب الله، إنَّ ذلك… يُكوِّن إطاراً لتلك العملية من التَّقاطب بين الإلهي والشيطاني)5، وغير مستغرب على هؤلاء الحداثيين إيراد مثل هذه الأغاليط والتراهات، وسلفهم في ذلك جمع من المستشرقين الذين ادَّعوا صحة قصة الغرانيق؛ كالمستشرق “واط” وغيره 6.
- وقد أنكر “قصة الغرانيق” عدد كبير من علماء المسلمين؛ كابن خزيمة والبيهقي وعياض وابن العربي والقرطبي والعيني والآلوسي والشوكاني، وقد جمع طرق “قصة الغرانيق” الألباني رحمه الله من كتب “التفسير” و”الحديث” وبيَّن عِلَلَها مَتْناً وسنداً7، وقال – في هذا الحديث المكذوب: (لا يصح، بل هو باطل موضوع)8.
- ادِّعاؤهم بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة رضي الله عنها في مرحلة الشباب، وعمرها ثمان وعشرون سنة؛ لأنه كان يعشق النساء، فوجد ضالَّته في خديجة التي جمعت بين المال والجمال9.
- وفي الوقت ذاته يُسارعون إلى رفض الروايات التي يُذكر فيها سبقُ خديجة رضي الله عنها في الإسلام ودورها في التضحية في سبيل الله؛ بحجة أننا (لا نجد أية إشارة إلى ذلك في القرآن، وكلُّه في أخبار السيرة، وقد يصح قسم منها أو قد يكون كلها من عمل الأسطورة، وهذا مشروع جدًّا في تكوين الخيال الديني)10، وكأنَّ زواجَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها، وهي ابنة ثمانٍ وعشرين مذكورٌ في القرآن!
إنَّ لجوء الحداثيين العرب إلى الأحاديث الشاذة والضعيفة والموضوعة والاعتماد عليها؛ لأنها توافق أهواءهم ومذاهبهم، وترك ما يُخالفهم؛ وإنْ كان صحيحاً ثابتاً، يُعتبر مسلكاً خطيراً في التعامل مع النصوص، والكيل بمكيالين؛ مكيال الرفض من أجل الرفض، ومكيال القبول من أجل الرغبة في الدليل، وهذا الاتجاه بلغ من خطورته أنْ يَرُدَّ أحاديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة، ويقبل منها الموضوع المُتَّفق على وضعه.
بل نجدهم يحتجُّون بأقوال الفلاسفة القُدامى؛ من اليونان والرومان، الذين بَعُدوا عن زمانهم آلاف السنين، وقد ورَدَتْ أقوالُهم دون توثيق أو تحقيق، فيقبلونها ويَعُدُّونها مُسَلَّمات، وأمَّا إذا كان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهنا، وهنا فقط نجد العلمية عندهم تحرَّكت؛ لِتَرُدَّ ما هو ثابت بالعقل، وليس لديهم حُجَّةٌ سوى مخالفته العقلَ – في زعمهم!
وإذا كان الحداثيون العرب يتَّهمون علماءَ الإسلام بعدم المنهجية في تدوين الحديث وجمعِه، فنحن نرد عليهم: بأنَّ علماء الإسلام بسبب انضباطهم واستعمالهم منهجاً مضطرداً، فقد وجدنا في كتبهم من الأحاديث التي جرَّتْ عليهم معاركَ ضاريةً لما فيها من شبهاتٍ وإشكالات، ولولا انضباطهم بمنهجهم العلمي لحذفوا من الأحاديث – لو كانوا انتقائيين مثل هؤلاء الحداثيين – ولكن هيهات فهم أكثر الناس انضباطاً وأكثرهم التزاماً بالمنهج العلمي الصحيح.
- روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، (ص 191). ↩︎
- انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 398). ↩︎
- مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، جورج طرابيشي (ص 93). ↩︎
- المنار المنيف في الصحيح والضعيف، (ص 66). ↩︎
- النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 265، 266). ↩︎
- انظر: موقف الاستشراق من السيرة والسنة النبوية، (ص 44-45). ↩︎
- انظر: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، محمد ناصر الدين الألباني. ↩︎
- المرجع نفسه، (ص 4). ↩︎
- انظر: تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (ص 148). ↩︎
- تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (ص 150). ↩︎