أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” (4)
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” ما يلي:
الأسلوب الرابع: نفي عدالة الصحابة:
الصحابة رضي الله عنهم هم مَنْ بَلَّغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدِّين، وهم مَنْ نقلوا القرآن والسُّنة إلى مَنْ بعدهم، ومن ثَمَّ، فهم همزة الوصل بين زمن النبوة والأزمنة التي تلته، فإذا استطاع أعداء الدِّين التَّشكيك فيهم وفي عدالتهم ونزاهتهم، فهذا يعني فقدان همزة الوصل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين مَنْ جاء بعده، وفي هذا هدم للدِّين من أساسه، وتقويض للبنيان من قواعده.
ومن أساليب دعاة الحداثة في الطعن في السنة النبوية والتشكيك فيها نفي عدالة الصحابة؛ لأنها الأساس الذي يقوم عليه علم الرواية، ومن أساليبهم في ذلك1:
- منهم مَنْ زعم أنَّ الصحابة كغيرهم من البشر يُخطئون ويصيبون، ويضلون ويهتدون، ويعلمون ويجهلون، ويعتريهم الخطأ والنِّسيان، ومنهم مَنْ يتَّهم الصحابة بالنِّفاق والكذب: انتقد بعضهم مسألة عدالة الصحابة، مُوَجِّهًا النقد اللاذع للذين عدَّلوا الصحابة بأنهم ينظرون إليهم وكأنهم (قد ارتفعوا عن درجة الإنسانية فلا يعتريهم ما يعتري كلَّ إنسانٍ من سهوٍ أو خطأٍ أو وهمٍ أو نسيانٍ، ولا نقول الكذب والبهتان)2!
- وأكَّد بعضهم انتفاء عدالة الصحابة قائلًا: (إنه لمن الصعب تاريخيًا إن لم يكن من المستحيل التأكيد والقول إنَّ كلَّ ناقلٍ قد سمع بالفعل ورأى الشيء الذي نقله)3.
- وهذا النَّفي لعدالة الصحابة يعني (رفْض ونَسْف كلِّ الأساليب والشروط والمبادئ التي اعتمدها البخاري وغيره من الأئمة في صحافهم أو متونهم، وذلك يعني ببساطة نَسْف ظاهرة العنعنة، التي تعتمد على النقل لا على إعمال العقل، وتعتمد على مَنْ قال وليس على ما قال!! إنَّ الصحابة كغيرهم من الناس يخطئون ويصيبون، يضلون ويهتدون، يعلمون ويجهلون.. حتى إنَّ سورة التوبة سُمِّيت بالفاضحة؛ لأنها أظهرت حقائق الكثير منهم آنذاك)4.
- وزعم بعضهم بقاءَ المنافقين وقد توفِّي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُبيِّن للمؤمنين أمرهم، وقد انخرطوا في المجتمع ولم يمتازوا عنه، فادَّعى بأنَّ (نفاق الصحابة على عهد النبي تكشفه أحاديثُه، وقد نقل “البخاري” عن حذيفة بن اليمان قوله: “إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ”5)6.
- وقد أخرج الحداثيون – كعادتهم – قولَ حذيفة رضي الله عنه من سياقه إلى سياقٍ آخَر؛ ليشابه تأويلاتهم الباطلة، قال ابن بطال رحمه الله: (وأمَّا حديث حذيفة، وقولُه: “إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم”؛ لأنهم كانوا يُسِرُّون قولَهم فلا يتعدَّى شرُّهم إلى غيرهم، وأمَّا اليوم فإنَّهم يَجْهرون بالنِّفاق، ويُعلِنون بالخروج على الجماعة، ويُورِثون بينهم ويُحَزِّبونهم أحزابًا، فهم اليوم شرٌّ منهم حين لا يَضُرُّون بِمَا يُسِرُّونه. ووَجْهُ موافقته للترجمة: أنَّ المنافقين بالجهر، وإشهار السِّلاح على الناس هو القول بخلاف ما قالوه؛ حين دخلوا في بيعةِ مَنْ بايعوه من الأئمة؛ لأنَّه لا يجوز أنّْ يتخلَّف عن بيعةِ مَنْ بايَعَه الجماعةُ ساعةً من الدهر؛ لأنَّها ساعةٌ جاهليَّة، ولا جاهليَّةَ في الإسلام)7.
- بل استدل بعضهم على وجود مَنْ يكذب على الله من بين الصحابة – وهو يُظهر إسلامه – بقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الصف: 7]، وزعم أنَّ هذه الآية تُبطِل نظرية عدالة الصحابة بِرُمَّتها8.
- إنَّ التشكيك في الصحابة رضي الله عنهم لوجود منافقين كما أشار القرآن الكريم وأشارت السنة النبوية لا قيمة له، لأسباب، وهي:
- الأول: وجود نصوصٍ قرآنية نبوية تؤكِّد على عدالة الصحابة رضي الله عنهم وتزكيتهم ورضا الله تعالى عنهم، والشهادة لهم بالخيرية.
- الثاني: إطلاع الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم على أسماء المنافقين وشخوصهم، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بشخوصهم يعني أنه لو كان هناك خطر يهدد الدِّين من ناحيتهم لَفَضَحَهم للناس جميعًا.
- الثالث: أطْلَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صاحبَ سِرِّه “حذيفةَ بن اليمان رضي الله عنه” على هؤلاء المنافقين بأسمائهم وشخوصهم؛ ليكون مُراقِبًا لهم وعارفًا بهم، ومن ثَمَّ، لو أنَّ أحدهم تَقَوَّلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر عنه بما لم يُخبر به لأبان حذيفةُ حالَه وفضح أمرَه، ولم يمت حذيفةُ رضي الله عنه إلاَّ وقد مات جُلُّ هؤلاء المنافقين، وهذا من صيانة الله لدينه.
- ومنهم مَن ادَّعى بأن الآيات والأحاديث الدالة على عدالة الصحابة إنما هي عامة ولم تقصد الصحابة بأعيانهم، فيجب البحث عن حال كل صحابي على حِدَة كغيره من الرواة: (فإنَّ الثناء من الله تعالى ورسوله – وهو الدليل على عدالتهم – لم يتناول الأفراد بالخصوصية، إنما غايته عموم.. ومَنْ تتبَّع تلك الموارد وسوَّى بين الصحابة فهو أعمى أو مُتَعام.. ومن الصحابة نوادر ظهر منهم ما يَخْرُج عن العدالة فيجب إخراجه كالشارب من العدالة لا من الصحبة، ومنهم مَنْ أسلم خوف السَّيف كالطُّلقاء.. كأبي سفيان ومعاوية ومَنْ معهما)9.
- ومنهم مَنْ يزعم أن عدالة الصحابة مسألة افتراضية، تُخالِف التاريخ والحقائق العلمية، والقصد من وضعه نفي الرَّيب عن القرآن والسُّنة: فقد زعم بعضهم أنَّ عدالة الصحابة (مسألةٌ افتراضية وَضَعَها الضمير الإسلامي حتى لا يقع التشكيك في أمانة صحابة رسول الله وفي صدقهم، ذلك أنَّ الشك إذا بلغ حدَّ الارتياب في نزاهة الصحابة، فإنه يعصف بأصول الدين الإسلامي؛ لأنَّ الصحابة هم الذين رَوَوا هذا القرآن ودوَّنوه، وهم الذين رَوَوا الحديث.. لذلك قرَّر علماءُ الإسلام صِدقَ صحابةِ الرسول وانتفاءَ الانتحال بينهم في حين أنَّ هذه التفرقة اعتبارية لا وجود لها ولا تتَّفق ومقتضيات النقد العلمي الصارم، كما أنه ليس هناك حدٌّ طبيعي بين الصحابة والتابعين يجعلنا لا نُنزِّه الأوَّلين من الانتحال ونشُكُّ في الآخرين)10.
- وبعضهم ينفي التاريخ المُشرق للصحابة ويصفه بأنه (تاريخ معقَّد لا ينسجم البتة وما أُضْفِيَ عليهم من عدالةٍ مطلقة، فلا يُعَدُّ هذا التقديس… تقديسًا يحجب التأثر الذي مارسَتْه العواملُ القَبَلية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي الناشئ ويُغيِّب التاريخَ الحقيقي الذي أسنَدَ فيه الشيعةُ العصمةَ لأئمَّتهم والسُّنةُ العدالةَ المطلقةَ لصحابتهم)11.
- ومنهم مَن ادَّعى بأنَّ مسألة عدالة الصحابة تم صياغتها مُتأخِّرًا: (ففي عهد ابن قتيبة “276 هـ” نجد المسلمين لا يقبلون كلَّ روايات الصحابة، وينتقدون بعضهم ويرمونهم بالكذب، وما كتاب “تأويل مختلف الحديث” إلاَّ محاولة قام بها مُحَدِّثو السُّنة لرفع الاتِّهام عن صحابة الرسول، بل إنَّ إضفاء القداسة على الصحابة لم يتأسس بعد في القرن الرابع للهجرة، كُتُبُ التاريخ تروي لنا أخبارًا كثيرةً عن عادة سبِّ الصحابة في هذا العصر اشترك فيها الشيعة والسُّنة على حدٍّ سواء)12.
- ومنهم مَنْ ادَّعى بأنَّ كثيرًا من الصحابة ارتدُّوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: ومن عادة الحداثيين العرب إخراج الآيات والأحاديث والآثار من سياقها إلى ما يخدم توجُّهاتهم المشبوهة أو تأويلها تأويلًا باطلًا، ومن ذلك13: أنهم استدلُّوا على ارتداد الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا… أَلاَ إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ… فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ)14. ومعلوم أنَّ مَن ارتدَّ خرج من الصحابة؛ لأنَّ حدَّ الصحبة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وأن يموت الرائي مُسلِمًا، ومَن ارتدَّ خرج عن الإسلام وخرج من كونه صحابيًّا، ولا يطعن ذلك في عدالة الصحابة؛ لكونه ليس منهم15.
- ومنهم مَنْ طعن في الصحابة المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأبي هريرة رضي الله عنه، وابن عباس رضي الله عنهما، وعائشة رضي الله عنها، ومن غير الصحابة؛ كالإمام الزهري رحمه الله: كَثُرت طعون الحداثيين العرب واتِّهاماتهم لأعلام الرواية الحديثية؛ محاكاةً لِمَا فعله أسلافهم السابقون من “المستشرقين”، وعلى رأس هؤلاء الأعلام الذين طعنوا فيهم أبو هريرة رضي الله عنه الذي اتهموه بوضع الحديث لبني أمية لعلاقته بالسلطة آنذاك، واتهموه بأخذ الروايات من أهل الكتاب ولا سيما كعب الأحبار، وأنَّ عائشة رضي الله عنها اعترضت عليه، وهو قليل المعاصرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد عزله عمر رضي الله عنه عن ولاية البحرين، وعابوه بالفقر وسوء الحال، وغير ذلك من الطعون المبثوثة في كتبهم السوداء16.
- وممن طعنوا به – من غير الصحابة – الإمام الزهري رحمه الله؛ لأنه أول مَنْ جمع الحديث النبوي قاصدًا الاستيعاب، (فاتهموه بالتبعية للأمويين، وعلاقته بالسلطة آنذاك، وبوضعه الحديث لهم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكاد تكون ذات الاتهامات التي وُجِّهت لأبي هريرة رضي الله عنه)17.
- وادَّعى بعضهم بأن شخصية الزهري شخصية خيالية ووهمية لا حقيقة لها، وما نُسِبَ إليه توهُّمات صبيانية ومبالغات طائشة، حيث (إنَّ التواريخ تنسب إلى الزهري عددًا من الكتب ضخمًا في السِّيرة والمغازي، وكتابًا واحدًا في الحديث، لكن هذا لا يمنع حضوره بقوة في الموطأ والصحيحين… ولم تَصِلْنا هذه الكتب؛ لأنه لم يُخلِّف أيَّ أثرٍ مكتوبٍ لا في السِّيرة – وهي اهتمامه الأكبر – ولا في الحديث، ولم يُخلِّف لأنه لم يكتب شيئًا، وقصة الاحتمال إنما هي قصة تشهد على خياليتها ومبالغتها الصبيانية)18.
الرد المجمل على نفي عدالة الصحابة:
انعقد الإجماع على أنَّ الصحابة رضي الله عنهم كلُّهم عدول؛ لأنَّ الله تعالى أثنى عليهم وزكَّاهم في كتابه الكريم، وكفى به تعديلًا وتزكية، وقد مَنَّ الله عليهم بسعة الحِفظ، وقوة الضَّبط، وقد كانوا رضي الله عنهم أحرصَ الناس على حِفظِ السنة وضبطِها؛ لإيمانهم بأنَّ ما يُحدِّثهم به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إنما هو وحيٌ من عند الله تعالى، والمُتتبِّع حالَ الصحابة واستماعهم إلى رسول صلى الله عليه وسلم يُدرك بما لا يدع مجالًا للشَّك أنهم رضي الله عنهم كان لهم منهجٌ في السماع، فلم يكن سماعُهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم للتَّسلية أو الترفيه أو الترف الفكري، وإنما كان للتَّحمُّل والتعلم والحفظ والتدوين والتبليغ19.
ومع ذلك؛ فإنَّ (العدالة شيءٌ والعصمة شيءٌ آخر، والذين قالوا: إنَّ الصحابة عدول، لم يقولوا قط أنهم معصومون من المعاصي، ولا من الخطأ والسهو والنسيان، إنما أرادوا أنهم لا يتعمَّدون كذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الذين حُدُّوا في حدٍّ أو اقترفوا إثمًا ثم تابوا أو لامسوا الفتنَ والحروبَ ما كانوا لِيَتَعمَّدوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم)20.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله – في شأن الصحابة رضي الله عنهم: (لو لم يَرِدْ من الله عز وجل ورسولِه فيهم شيء مِمَّا ذَكَرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها؛ من الهجرة والجهاد والنُّصرة، وبذل المُهَج والأموال وقتل الآباء والأولاد، والمُناصحة في الدِّين، وقوة الإيمان واليقين، القطعَ على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضلُ من جميع المُعَدَّلين والمُزَكَّين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء، ومَنْ يُعتدُّ بقوله من الفقهاء)21.
ويكفي في الرد على أهل الحداثة وغيرهم – ممن طعنوا في الصحابة – قول أبي زرعةرحمه الله: (إذا رأيتَ الرجلَ ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآنَ والسُّنَنَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يُريدون أن يجرحوا شُهودَنا؛ لِيُبطِلوا الكتابَ والسُّنة، والجرحُ بهم أَولى، وهم زنادقة)22.
الأسلوب الخامس: رفض منهج أهل الحديث النقدي:
يقوم منهج أهل الحداثة النقدي على تطويع النص لواقع الحياة، ومحاكمته وإخضاعه لعملية البحث والمساءلة، مما يعني أن الحداثيين ينظرون إلى (النص القرآني والحديثي بمثابته نصًّا قابلًا للبحث باتجاهات بحثية متعدِّدة تعدُّد الأنساق المعرفية العلمية.. كنظرية النص، ونظرية التراث، وعلم تاريخ الدِّين، وعلم اجتماع الدين، وعلم مقارنة الأديان)23؛ وذلك بفصله تمامًا عن صاحب النص، وهو الله تعالى مع القرآن الكريم، والرسول صلى الله عليه وسلم مع السنة النبوية، وهذا يعني نزع صفة القداسة للنص المُستمدَّة من قائله، وفصل النَّص عنه تمامًا، بما يُتيح لهم الفرصة لتأويله وتلقِّيه ودراسته دارسةً بشرية بحتة مُتَغيِّرة بالطبع من شخص إلى شخص، ومن عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، فتتعدَّد القراءات وتختلف التأويلات وذلك بِحُجَّة اختلاف الظروف والواقع عمَّا كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بدوره يؤدِّي إلى إقصاء النِّص والدِّين عن واقع التأثير في الحياة.
بينما يقوم المنهج النقدي عند أهل الحديث على تعظيم النص والوثوق به، وإعماله وإخراج أقصى ما يمكن منه بالفهم؛ بل تقديمه على غيره، والمحافظة عليه وعدم التفريط فيه دون مسوِّغٍ أو سبب ملائم، وتطويع واقع الحياة له؛ لأنَّ النص هو صانع الحياة ابتداءً حيث حوَّلها من أمة جاهلية هامشية إلى محور العالم ومدار الحياة لقرون طويلة، ومن أساليب الحداثيين العرب في رفض منهج أهل الحديث النقدي ما يلي24:
- منهم مَن يدَّعي بأنَّ المنهج النقدي عند أهل الحديث يُرسِّخ تقديس النص، ويُقصِي مبدأ تاريخية النص ومحدوديته، ويُرسِّخ (مفهموم “شمولية النص” وذلك عن طريق قراءة كلِّ تطورات الوعي الإنساني فيها، ولأنها ثانيًا تُولِّد لدى القارئ القناعة بامتلاك كتابه المُقَدَّس لكل ما وصل إليه الإنسان – أو يمكن أن يصل إليه – ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا)25، ويزعم الحداثيون أنَّ تَصَوُّر أهل الحديث لقدسية النص (تَصَوُّرٌ يعزل النَّص عن سياق ظروفه الموضوعية التاريخية بحيث يتباعد به عن طبيعته الأصلية بوصفه نصًّا لغويًّا ويحوِّله إلى شيء له قداسة)26، وفي محاولة بائسة من “نصر حامد أبو زيد”، يُحاول فيها نزع القداسة عن النَّص، والتَّعامل معه بصورةٍ مُجرَّدة باعتباره نصًّا لغويًّا صِيغَ في ظروفٍ تاريخيَّة مُعيَّنة، يُمكنه التَّعامل معه وتَلَقِّيه تلقِّيًا حَدَاثيًا وقراءته قراءةً تأويليَّة مختلفةً عمَّا سبق وَفق ظروف العصر ومُقتضياته؛ فانظر إلى جنايته على القرآن الكريم أولًا، ثم جنايته على السنة النبوية ثانيًا.
- وهو يُحاول أن ينفي عن النَّص شموليَّتَه سواء التاريخية أو التشريعية؛ بمعنى شموليته ليستوعب التاريخ الإنساني بعد النبوة وحتى قيام الساعة، وكذا ليستوعب بتشريعاته حياة الناس إلى قيام الساعة.
- وهنا نجد أنه ابتداءً لم يفهم النَّص ولم يفهم التشريع، ولم يستطع أن يُفرِّق بين أنواع الأحكام الشرعية، وبين المُستجدَّات والمُسْتَحْدَثات، ولم يستطيع أن يُدرك أنَّ هناك تطوُّرًا في الأحكام بتطوُّر العصر، ولكنها محكومة بقواعدَ وضوابطَ حدَّدتها الشريعةُ الغرَّاء في مصدَرَيها المُقدَّسين وهما القرآن والسنة؛ لِيَسْتوعِبا بهذه القواعد وتلك الأصول حياةَ البشرية في كلِّ زمانٍ وكلِّ مكان.
- ومنهم مَنْ يزعم أنَّ منهج أهل الحديث النقدي تغيب فيه الروح النقدية، وهو منهج غير مؤهل ولا قادر على تنقية الحديث و(ما يُعاني منه هذا المنهج يتلخَّص في آفتين: غياب الروح النقدية، وفقدان النظرة التاريخية. وطبيعي والحالة هذه أنْ يكون إنتاج هؤلاء هو: “التراث يكرِّر نفسَه” وفي الغالب بصورة مُجزَّأة ورديئة)27.
- ومنهم مَنْ يدَّعي أن منهج أهل الحديث النقدي ليس فيه إبداع ولا تطور ولا يقبل الجديد، بل إنَّ (موقف الخطاب الديني المعاصر من “علوم القرآن” ومن “علوم الحديث” كذلك هو موقف الترديد والتَّكرار؛ إذ يتصوَّر كثير من علمائنا أنَّ هذين النَّمطين من العلوم يقعان في دائرة العلوم التي “نضجت واحترقت” حتى لم يعد فيها للخَلَف ما يُضيفُه إلى السَّلف)28.
- ومنهم من يدعي أن منهج أهل الحديث النقدي منهج قاصر عن بلوغ مدارك العلم والنقد، إذ يُغفِل كليات الشريعة ومقاصدها، ويصب اهتمامه بالنقد الخارجي (نقد الإسناد) ثم يُهمِل النقد الداخلي (نقد المتن) فجل اهتمامه على الشكل فقط دون المضمون والكليات والمقاصد29.
- 5- ومنهم مَنْ يتهم المنهج النقدي عند أهل الحديث بأنه لا يتَّصف بالعقلانية، ولا يقوم على الأسس العلمية؛ لأنَّ (المعتمد في هذا المنهج كما نعرف ليس العقل بل شهادة الآخرين؛ أي النقل أيضًا.. فلم يكن هناك مجال للممارسة العقلية كما كان الشأن في النحو والفقه والتحليل البلاغي)30. ولا يسمونه علمًا بل (نقول: “آراء رجال الحديث” ولا نقول: “علم مصلح الحديث” ولكن نظريات قبول الحديث؛ لأنه ليس علمًا يعتمد على منهجٍ كعلم التاريخ أو المنطق أو اللغة إلخ…)31.
- وقد (رفض الحداثي “المنهج النقدي” الذي وضعه علماء الإسلام وبالأخص أهل الحديث في نقد المرويات الحديثية، الذي أبدعوه من وحي الواقع والحاجة الذاتية للأمة، فكان إبداعًا خالصًا غير مستورد من أممٍ أخرى سابقة أو معاصرة، إنما هو مُحصِّلة معارف صهرت بعد أن جمعت، فأخرجت عسلًا ترياقًا سائغًا للشاربين.
ومما يمكن إضافته هنا هو أن المنهج الإسلامي النقدي منهج يقدِّس النص ويقول بأوليته، كما يحاول فهم أقصى ما يمكن من النص ويضيق باب الهوى والفهم الفاسد للقارئ، فإن المنهج الإسلامي يقوم بنقد المتن كما نقد السند، بل المتن هو الغاية وهو سبب نقد السند)32. وما ادَّعوه مردود عليه بما يلي:
- أولًا: ادعاؤهم اهتمام أهل الحديث بنقد السَّند دون المتن أمر خاطئ؛ إذ إنَّ أهل الحديث ابتداءً من خلال السَّند حاولوا توثيق النَّص؛ فإما أنْ يكون النص ثابتًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا يكون، ثم تأتي المرحلة التالية وهي نقد المتن، وذلك بالنظر في متن الحديث، وبداهةً معروفٌ أنَّ التأكُّد من قول النَّص بالشهادة والقرائن تسبق مرحلة التحليل للنص وفهمه وتحقيقه، ولكن أهل الحداثة يُحاولون أنْ يبدؤوا بما يجب أنْ يُنتَهى به، فيتعاملون مع النص مباشرة، كيف هذا؟! أليس في أيِّ محكمةٍ في الدنيا يبدأ القاضي أولًا بتوثيق الكلام من خلال شهادة الشهود والقرائن، ثم يُنظر في الكلام أيستحقُّ قائله أن يُعاقب به أم لا؟! إنَّ توثيق نسبة الكلام إلى صاحبه تسبق النظر في الكلام بالتحليل والقراءة وهذا مما لا يختلف فيه العقلاء.
- ثانيًا: ادِّعاؤهم قصور منهج النقد عن أهل الحديث؛ فنقول لهم: إنكم تفترضون مبدءًا وهو: إمَّا أنْ يُسَلِّم لكم أهل الحديث بتأويلاتكم ونظرياتكم، وإمَّا أنْ تنعتوهم بأوصافِ التَّخلُّف والرجعية وعدم القدرة على الفهم.
هذه حالكم مع المُخالِف، فقد ضربتم عُرض الحائط كلَّ ما أنجزه هؤلاء العلماء وكلَّ ما بذلوه وكلَّ ما أصَّلوه من علمٍ واخترعوه وابتكروه من فنونٍ لتلقِّي هذا النص وتفسيره لمجرَّد مخالفتكم لهم؛ حتى سمَّيتُم العلوم الأُخرى “التاريخ – المنطق – الكلام – علوم العربية” علومًا ونزعتم عن علم الحديث صفةَ العلم، وقد نسيتم أنَّ جُلَّ علوم اللغة والأدب والكلام إنما هي من نتاج أئمة الإسلام الذين تُوَجِّهون لهم سهام النقد وتُحاولون هدم بُنيانهم، وهيهات هيهات لكم.
يُتبع.
- انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 201). ↩︎
- أضواء على السنة المحمدية، (ص 220). ↩︎
- الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 244). ↩︎
- جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 19). ↩︎
- صحيح البخاري، (3/ 1437)، (رقم 7198). ↩︎
- الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 91). ↩︎
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، (10/ 57). ↩︎
- انظر: نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام، المحامي أحمد حسين يعقوب (ص 42). ↩︎
- أضواء على السنة المحمدية، (ص 349). ↩︎
- الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 238). ↩︎
- المصدر نفسه، (ص 348). ↩︎
- المصدر نفسه، (ص 236). ↩︎
- انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 339). ↩︎
- رواه البخاري، (2/ 969)، (ح 4787)؛ ومسلم، (2/ 1204)، (ح 7380). ↩︎
- انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 219). ↩︎
- انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 196)؛ فجر الإسلام، (ص 347)؛ جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 20)؛ الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 95). ↩︎
- الحداثة وموقفها من السنة، (ص 211). ↩︎
- تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (ص 37). ↩︎
- انظر: عظمة السنة النبوية، أ. د. محمود بن أحمد الدوسري، المطلب الثالث: حفظ السنة في عصر الصحابة (ص 68-78). ↩︎
- دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، أ. د. محمد بن محمد أبو شهبة (ص 287). ↩︎
- الكفاية في علم الرواية، (49). ↩︎
- الكفاية في علم الرواية، (ص 49). ↩︎
- النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 93). ↩︎
- انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 238). ↩︎
- النص والسلطة الحقيقية، إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، نصر حامد أبو زيد (ص 141). ↩︎
- مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، (ص 12). ↩︎
- التراث والحداثة دراسات ومناقشات، (ص 26). ↩︎
- مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، (ص 11). ↩︎
- انظر: التراث وقضايا العصر، (ص 52)؛ الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 209). ↩︎
- بنية العقل العربي دراسة تحليلية نقدية لنظام المعرفة في الثقافة العربية، د. محمد عابد الجابري (ص 549). ↩︎
- نحو فقه جديد، (2/ 54). ↩︎
- الحداثة وموقفها من السنة، (ص 239). ↩︎