شبهات حول السنةشبهات وردود

أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” (3)

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” ما يلي:

الأسلوب الثالث: إنكار الثبوت التاريخي للسُّنة:

من أساليب دعاة الحداثة في إنكار الثبوت التاريخي للسنة ما يلي1:

  1.  فمنهم مَنْ يزعم أنَّ السُّنة بقيت طوال مائة عام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تُتَناقل مُشافهةً دون تدوين، ولم يلتزم الرواةُ بالنقل اللفظي للحديث بل كانوا يرونه وَفق أفهامهم مِمَّا يُفقد الثقةَ بالأحاديث المروية: فيزعمون أنَّ (نصوص الأحاديث لم تُدوَّن إلاَّ متأخِّرة، وخضعت من ثَمَّ لآليات التناقل الشفاهي، الأمر الذي يُقرِّبها إلى مجال النصوص التفسيرية من حيث إنها رويت بالمعنى لا بلفظ النبي، وإن كانت الأحاديث ذاتها.. نصوصاً تفسيرية لنوع من الوحي مغاير.. فإن الأحاديث التي بين أيدينا تكون في حقيقتها تفسيراً للتفسير)2. و(النقل الشفاهي فيه بالطَّبع تحريفٌ مستمر؛ ولهذا فإنه لا يُعتدُّ في العلوم المُتكَوِّنة إلاَّ بالنقل المكتوب)3؛ لأنَّ (الاهتمام بالحديث لم يكن موجوداً في القرن الأوَّل)4.
    • وهذه (النصوص التي خضعت لآليات الانتقال الشفاهي – ولو لفترة محدودة كالأحاديث النبوية – فإنها تَطْرَح إشكاليةً أكثر تعقيداً من جانبي المنطوق والمفهوم معاً؛ إذ يفقد هذا النوع من النصوص صفةَ ثبات المنطوق، ويصبح تحديده أمراً اجتهاديًّا خاضعاً بدوره لجدلية الكشف والإخفاء)5.
    • وادَّعوا بـ(إنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها ممَّا سمُّوه صحيحاً، أو ما جعلوه حسناً، حديثٌ قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، كما نَطَقَ الرسولُ به… وقد وُجِدَ بعض ألفاظ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة وذلك في القلة والندرة.. ومن أجل ذلك جاءت الأحاديث وليس عليها من ضياء بلاغته صلوات الله عليه إلاَّ نورٌ خافت أو شعاع ضئيل)6.
    • و(الإقرار بوجود حديثٍ نبوي متكامل لفظاً ومعنىً مسألة تفتقد المصداقية الوثيقة التاريخية، أو على الأقل تستثير تحفظاً وشكاً شديدين)7.
    • نسي أو تناسى أصحاب هذا الرأي عدة أمور، منها:
      •  أن السنة النبوية المشرفة لاقت من العناية والاهتمام والتدوين القدر الكبير، وقد بدأ تدوين السنة في مرحلة سابقة عن تلك التي يحاولون التأريخ بها لبداية تدوينها؛ إذ من الثابت تاريخيًّا أن التدوين بدأ منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنذ القرن الأول للهجرة، ولكن بشكل فردي، وإنما حدثت الطَّفرة في الجمع والتدوين في القرن الثاني للهجرة كحركة علمية مُنظَّمة.
      •  أنَّ العرب أُمَّةٌ منحها الله تعالى من قوة الذاكرة ما شهد لها به الجميع، حتى ليكاد يكون إجماعاً على قوة ذاكرتهم، وقد مكنتهم هذه الذاكرة القوية من حفظ الحديث النبوي وتأديته كما هو8.
      •  أن التبدل أو التغيير في بعض ألفاظ الحديث مرجعه إلى: إمَّا تكرار الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم في موقفين مختلفين، وفي مناسبتين مختلفتين. وإمَّا رواية الحديث كما هو مع تغييرٍ في بعض ألفاظه من قبل الراوي، مع إشارته في كثير من الأحيان إلى ذلك.
    • وهاتان الحالتان لا تُقلِّل من قيمة الحديث ولا تُضعف من مكانته، فالحالة الأُولى الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا إشكال فيها؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الصيغتين، ومن ثَمَّ، هو أدرى بما قال وبما يقول.
    • وأما الحالة الثانية، ففيها جواز رواية الحديث بالمعنى عن الرسول صلى الله عليه وسلم ممَّن عاصروه وسمعوه منه صلى الله عليه وسلم، أمَّا غيرهم فلا؛ لأن مَنْ سمعوا منه إنما فهموا مُرادَه وعرفوا غايته، وفي نفس الوقت هم أهل اللغة والبلاغة والفصاحة، ومن ثَمَّ إنْ حدث تغيير أو تبديل في بعض الألفاظ، فهو ممَّا لا يُخِلُّ في المعنى، ولا يُنافي مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    • أمَّا الادِّعاء بأنَّ الأحاديث التي جُمعتْ ليس عليها من ضياء البلاغة النبوية إلاَّ نورٌ خافت، فهذا واللهِ العَجَب العُجاب، فها هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاهم أهل اللغة فلينظروا في هذه الأحاديث ولينظروا في صياغتها وبلاغتها وتفرُّدها وتميُّزها، هل وجدوا مثل هذا الكلام في لغة البشر؟! لا واللهِ، ما وجدوا ولن يجدوا.
    • بل إنَّ الدراسات الأكاديمية في كلِّ جامعات العالم العربي والإسلامي وكذا الرسائل الجامعية التي تناولت الحديث النبوي بالبحث والدراسة اللغوية والبلاغية لَتُثْبِتُ بما لا مجال للشك معه عظمةَ البلاغة النبوية، التي لا يمكن أن تصدر إلاَّ عن سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي أُوتي جوامع الكلم.
  2.  ومنهم مَنْ يزعم أنَّ الأحاديث من نسج خيال الرواة، وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفعله على الحقيقة: فقد زعم أهل الحداثة أنَّ نصوص الأحاديث ما هي إلاَّ خيال يجول في نفس الراوي وليس هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفعله على جهة الحقيقة: (الحديث النبوي في نهاية الأمر تَمَثُّلٌ لما استوعبه المحدِّثون فيما بعد أو كما فهموه، ففيه جانب كبير من ذات الراوي وثقافته ووعيه، فنقل التاريخ لا يعكس التاريخ كواقع وأحداث)9.
    • واعتبر الحداثيون العرب أنَّ الأحاديث النبوية من نسج الخيال الجمعي للأمة لإيجاد نموذج مفترض، وهو غير موجود على أرض الواقع؛ فمن مزاعم في ذلك قولهم بـ (أنَّ نموذج المدينة الأكبر ما هو إلاَّ من اختراع المُتَخَيَّل الجماعي لأجيالٍ متتالية من المؤمنين الذين أسقطوا على الزمان والمكان التدشينين “للدولة الإسلامية” “622 م – 632 م” الحضارة المتنمذجة والمثالية للسلطة العادلة والمقدسة والشرعية)10.
    • و(نحن نعلم أنَّ “هيغل” كان يتحدث عن الكليانية الأخلاقية المرتبطة بالاستذكار الحنيني والاسترجاعي للمدينة الإغريقية وللجماعات المسيحية الأُولى، ونحن نجد مُعادِلاً لهذه الفكرة في تعلُّق المسلمين بمثالٍ أخلاقي أعلى لا يُمكن تجاوزه، هذا المِثال الذي كان قد تجسَّد في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو صحابته. من المعلوم أنَّ الأحاديث النبوية ما انفكَّت تتزايد وتنتشر طيلة القرون الهجرية الثلاثة الأُولى، وهي تُعبِّر عن مُجمل القيم الأخلاقية – الدِّينية المُعظَّمة والمُبجَّلة من قبل مختلف الفئات الاجتماعية في أوضاعها الحياتية المتنوِّعة، كما أنها مُسقَطة على النماذج المِثالية المقدِّسة للسلف الصالح)11.
    • وهكذا حاول الحداثيون قياس حالةٍ بحالة؛ فقاسوا ما قام به “هيغل” كفردٍ في محاولته إحياء النماذج اليونانية القديمة، وحاولوا إسقاطها على ما قام به علماء المسلمين مع السنة النبوية.
    • وهذه الدعوى خطيرة للغاية؛ إذ إنها لا تنفي وجود السُّنة فقط، وإنما تؤكِّد على تزوير مُتَعمَّد للتاريخ الإسلامي والتشريع الإسلامي، وليس هذا العمل من قِبَلِ فردٍ أو فردين أو حتى مجموعة أفرادٍ، وإنما قام به علماء الإسلام على تباعدٍ في الزمان والمكان، وكأنهم جميعاً تواطؤوا على هذا الفعل.
    • وهي دعوة هشة لا تثبت أمام العقل من جهة، وأمام وقائع التاريخ من جهة أخرى: أمَّا العقل: فمستحيلٌ عقلاً أن يتواطأ هذا العدد الكبير من علماء الإسلام شرقاً وغرباً مع تباعدٍ في المكان واختلافٍ في الزمان على فكرة واحدة وهي تزوير التاريخ الإسلامي؛ تحقيقاً لهدف واحد، وهو بناء النموذج الكامل المنشود منهم جميعاً والغير موجود واقعاً.
    • أمَّا من حيث التاريخ: فإن تدوين السنة عموماً وتدوين ما يتَّصل بها من علوم لم يبتعد عن زمن الوحي والرسالة كثيراً، وإنما بدأ مبكِّراً، وكذا بدأت الحركة العلمية في كافة العلوم الإسلامية العربية في وقتٍ مُبكِّر، مع اهتمامٍ بالغٍ بضبط النَّقل وضبط النَّص كما لم يحدث في أُمَّة من الأمم؛ مما يجعلنا مطمئنين إلى ما وصلنا من علومٍ حفِظَها لنا علماء الأمة الأفذاذ.
  3. 3- ومنهم مَنْ يدَّعي اختلاف الروايات وتعارضها باختلاف الأزمنة المكتوبة فيها؛ كما ادَّعى ذلك “د. محمد حسين هيكل” بقوله: (إنني لم آخذ بما سَجَّلَتْهُ كتب السِّيرة وكتب الحديث، ولم أنهج في التعبير عن مختلف الحوادث بنهجها.. وأول هذه الأسباب ما بين هذه الكتب من خلافٍ في رواية الكثير من الأمور المنسوبة إلى النبي العربي منذ مولده إلى وفاته، فقد لاحَظَ الذين درسوا هذه الكتب أنَّ ما روته من أنباء الخوارق والمعجزات ومن كثيرٍ من غيرها من الأنباء كان يزيد وينقص دون مسوِّغٍ إلاَّ اختلاف الأزمان التي وُضِعَتْ هذه الكتب فيها، فقديمها أقل رواية للخوارق من متأخِّرها، وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقل بُعداً عن مقتضى العقل مما ورد في كتب المتأخِّرين)12، وهذا الكلام فيه جانِبٌ من الصواب، فحقًّا هناك وقائع تاريخية غير ثابتة وردت في كتب التاريخ والسِّير.
    • ولكن السؤال المهم: هل أهمل علماءُ الإسلام هذه الوقائعَ ولم يُبيِّنوها؟ بالطبع لا. فقط درسها علماء الإسلام ونبَّهوا عليها، وبيَّنوا صحيحَها من سقيمها وَفق منهجٍ مُطَّرد في تلقِّي الأحداث والوقائع وتدوينها، ولكن يبدو أنَّ صاحب هذا الكلام لم يُعجبه ما ورد من معجزاتٍ نبوية عَبَّرَ عنها هو بقوله: “خوارق” وربما ظنَّ أنها تُخالف العقل، فحاول نفي ثبوتها وعدم وجودها، ولكن مثل هذه المعجزات ثابتة بنصِّ القرآن، وصِدقِ النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس المقام مقام تفصيل.
  4.  ومنهم مَنْ يُشكِّك في منهج المحدثين وبأنهم عاجزون عن تنقية الحديث من الموضوعات: ومن العجائب أنَّ بعض الحداثيين العرب استدلَّ على عجز منهج المُحدِّثين عن إبعاد “الموضوعات” بأن البخاري رحمه الله جمع “كتابه الصحيح” من ستمائة ألف حديث، فلم يستطع تنقية الحديث النبوي من الشوائب13!     وادَّعى بعض الحداثيين بأنَّ المحدِّثين لم يستطيعوا التخلص من الأحاديث الموضوعة؛ لكثرتها وتتابع الناس عليها، فيقول (ومع أنَّ الفقهاء استخدموا عبر نشاطهم التفقيهي التنظيري طريقة الجرح والتعديل… واكتشفوا غيرها مع آخرين من الجُمَّاع والباحثين مجموعاتٍ ضخمةً من الأحاديث الموضوعة “الكاذبة” إلاَّ أنهم لم يستطيعوا أنْ يفعلوا الكثير، حيث كانوا يُلاحظون أنَّ هذه الأحاديث ظلَّت قائمةً ومعمولاً بها من قبل جموعٍ واسعة من المؤمنين، وذلك بفعل النقل الاجتماعي الذي حققته لديهم عبر تراكمٍ تاريخي وتراثي جديد، وكان من نتائج ذلك أنْ تراكمت الترسانة الحديثية على نحوٍ هائل)14.
    • وزعم بعضهم أنَّ المُحدِّثين (اعتبروا الحديث الموضوع صنفاً من أصناف الحديث الضعيف التي لا يُعمل بها إلاَّ في الفضائل)15.
    • وبعض دعاة الحداثة يستقي معلوماته – عن أهل الحديث – من خصومهم دون تمحيص أو تمييز، فيزعم أنه (جاء في “دائرة المعارف الإسلامية” تحت مادة: “الحديث” .. مع أنَّ المسلمين كانوا يَلَعنون واضعي الأحاديث ومَنْ يُذيعها بين الناس عن سوء قصد، إلاَّ أنه ثمَّة اعتبارات مُخَفِّفة أُخِذَ بها في بعض الأحوال، وبخاصة إذا كان الحديث الموضوع يتناول بعض العِظات أو التعاليم الخُلُقية)16.
    • وهذا الاتهام الباطل يردُّه هذه الجهود العظيمة التي قام به علماء الإسلام في سبيل صيانة السُّنة وحِفظِها؛ فإذا كان الإمام البخاري رحمه الله غربل ستمائة ألف حديث لديه ليخرج لنا صحيحَه، الذي لا يتجاوز الأربعة آلاف وبضع مئاتٍ من الأحاديث، أليس هذا دليلاً على جُهدٍ بالغٍ لتنقية السُّنة وحِفظِها.
    • وليس الإمام البخاري وحده صاحب جُهدٍ في هذا الباب، ولكن انظر إلى هذه المؤلفات وتلك المجلدات التي ضمَّت الصحيح وميَّزته عن الضعيف وعن الموضوع؛ لتكون مرجعاً ترجع إليه الأمة لمعرفة صحيح السُّنة الثابتة وتمييزها عمَّا قد يُخالطها من ضعيفٍ أم موضوع.
    • إن مثل هؤلاء المُدَّعين يُحاولون أنْ يحجبوا ضوء الشمس أو أنْ يُزيلوا الجبال الراسخات، فجهدهم هباء منثور، لم يؤثِّر في منزلة السُّنة ومكانتِها، ولن يؤثِّر؛ لأن الله تعالى حافظٌ دينَه ولو كره الكافرون.
  5.  ومنهم مَنْ يدَّعي امتزاج الإسرائيليات بالحديث النبوي: فقد زعم بعض الحداثيين العرب أنَّ الصحابة تداولوا الإسرائيليات وأصبح ذلك أمراً مُتعارفاً عليه بينهم، ومألوفاً عندهم فـ(لم يكن اعتماد جمهور المفسرين ورواة الحديث على هذه الإسرائيليات مما يثير الحرج في نفوسهم، فلقد كانت حاضرةً ومقبولةً زمنَ النبوة والصحابة بسبب عاملين اثنين: أولهما نشاط مَنْ يُطلَق عليهم “مسلمة اليهود” وكان بعضهم على دراية بالتراث اليهودي، وثانيهما أنَّ نُسَخاً من التوراة نفسها كانت متداولةً لدى الصحابة زمن النبوة وقبلها)17.
    • والهدف الذي يرمي إليه هذا الحداثي واضح ومعلوم؛ وكأنه أراد بذلك أنْ يُبَرهِنَ على أنَّ الإسلام مزيجٌ من دياناتٍ وفلسفاتٍ سابقة عليه، وليس لديه دليل على صدق مذهبه إلاَّ هذه الروايات التي يُطلَق عليها: الإسرائيليات، وما انتشر من نُسَخِ التوراة في زمن الصحابة رضي الله عنهم وقبلهم.
    • وهذا الادِّعاء لا يُمثِّل قيمةً علمية عند البحث والمناظرة؛ فمعلوم وثابت تاريخيًّا أنَّ الدِّيانة السائدة في شِبه الجزيرة هي ديانةٌ وثنيَّة على اختلاف معبوداتهم هذه واحدة، وأنَّ عدداً قليلاً من العرب في الجزيرة على اتِّساعها هو مَنْ تَنَصَّرَ، وأنَّ اليهود وإنْ وُجِدوا بين العرب في يثرب “المدينة النبوية” فهم يضربون لأنفسهم “جيتو”18يدخلون فيه ولا يُطلِعون أحداً على تعاليم دينهم، فمن أين له بهذه النتيجة التي مُفادها: انتشار نُسخٍ من التوراة واطِّلاع العرب عليها، وانتشار روايات إسرائيلية بسبب وجود اليهود بينهم؟ إنَّ على صاحب هذا الرأي أنْ يأتِ بدليلٍ على صِدق دعواه وإلاَّ فليصمت.
    • أمَّا ما وُجِد من إسرائيليات في كتب المسلمين، فقد نبَّهوا عليها ولم يتركوها هكذا لتدخل في نسج الدِّين الإسلامي الحنيف، وإنما ذكروها للتنبيه عليها وبيانها للناس.
    • ومن تضخيم دعاة الحداثة للإسرائيليات وادِّعائهم تداخلها وامتزاجها مع الحديث النبوي، كما دخل عليه أشياء أخرى من كل الأديان والنِّحل، قول أحدهم: (لا يعجب القارئ من أنْ يَدخُلَ في الإسلام مسيحياتٌ بعد أنْ دَخَلَ فيه إسرائيلياتٌ، فإنه قد شِيبَ 19بأشياء من كلِّ دينٍ ومن كلِّ نحلةٍ، ولكن المجال لا يتَّسع لبيان كلِّ ما دخل عليه من المِلل الأُخرى؛ لأنَّ ذلك يحتاج إلى مؤلَّف برأسه)20.
    • وبعض الحداثيين العرب ادَّعى امتزاج الإسرائيليات بالحديث النبوي إلى درجة عدم التمييز بين ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما قاله مسلمة الكتاب؛ من أمثال كعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، ووهب بن منبه، وغيرهم، وقد كان (كعب بن ماتع.. يهوديًّا من اليمن.. مِنْ أكبر مَنْ تسرَّبت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين.. وقد أخذ عنه اثنان هما أكبر مَنْ نَشَرَ عِلمَه: ابن عباس – وهذا يعلِّل ما في تفسيره من إسرائيليات – وأبو هريرة، ولم يُؤثَرْ عنه أنه ألَّف كما أُثِرَ عن وهب بن منبه ولكن كل تعاليمه كانت شفويةً، وما نُقِلَ عنه يدل على عِلمه الواسع بالثقافة اليهودية وأساطيرها) 21. و(ما صَوَّره الحداثيون بتضخيم الإسرائيليات وحجم روايتها فِعْلٌ مُؤدلج يهدف إلى تزييف الواقع، وإفقاد الثقة بمنهج الرواية عموماً وبالحديث النبوي خصوصاً.
    • والواقع أن هذه الإسرائيليات ليس لها أيُّ مكانةٍ تشريعية، ولا تُثْبَت بها الأحكام، ولا يُحتجُّ بها للترجيح بين المسائل أبداً)22والسؤال: كيف عرف هؤلاء هذه الإسرائيليات وتلك الروايات؟! ألم يعرفوها من علماء الإسلام؟! ألم ينبِّه عليها علماء الإسلام؛ كابن كثيرٍ رحمه الله في تفسيره وغيره؟!
    • لقد تعدَّدت مناهج علماء الإسلام في حركة التأليف، فمنهم مَنْ جمع الروايات ونبَّه عليها، ومنهم مَن اقتصر على الصحيح فقط ولم يلتفت إلى ما عداه.
    • ولكن أدعياء العقل؛ الذين لا عقل لهم يغضُّون الطرف عن تعليقات علماء الإسلام على مثل هذه الروايات، ويقفون عند حدود ورودها في كتبهم، وكأنها أصبحت مُسَلَّمات بسبب ورودها، وهذا مخالف للمنهج العلمي الموضوعي، إذ إنهم يعتمدون الانتقائية المخالفة لمعايير العلم والبحث العلمي الجاد.
  6.  ومنهم مَنْ يدَّعي تأخُّر تدوين السُّنة إلى ما بعد مائة عام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما أفقد الأحاديث صلاحيتها للاحتجاج: من أعظم الأمور التي يستدل بها دعاة الحداثة لإبطال مشروعية السنة وإنكار ثبوتها التاريخي الزعم بتأخر تدوينها، وأن الأحاديث لم تُدوَّن ولم تكتب إلاَّ بعد مرور مائة عام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، مما أفقدها قيمتها الثبوتية، (فلا نعتمد على ما أكمل به الإسلام فيما بعد من سيرةٍ وتاريخٍ وطبقاتٍ وحديث؛ لأنَّ القاعدة أنَّ كلَّ ما دُوِّن بعد مائة سنة من الحدث فاقد لثقة المؤرخ)23.
    • ويعزو بعض الحداثيين العرب تأخُّر تدوين السنة إنما تم بدافع سياسي وليس بدافع علمي؛ وذلك لتعزيز السلطة آنذاك، فيدَّعي أنَّ (الرجال الذين نُسِبَ إليهم تدوين العلم وتبويبه قد قاموا بذلك فِعلاً .. وما نريد التأكيد عليه هنا هو أنَّ العمل الذي تم في وقتٍ واحد وفي أمصار متباعدة لا يُمكن أنْ يحدث هكذا تلقائيًّا وبمجرَّد المُصادفة، إنه لا بد أنْ تكون الدولةُ وراء هذه الحركة العلمية الواسعة التي كانت تستهدف ترسيم الدِّين إذا صحَّ التعبير؛ أي جعله جزءًا من الدولة وفي خدمتها، مِثلما أنَّ عمل الشيعة في هذا المجال، كان يهدف بالمقابل ترسيم المُعارضة السياسية؛ أي إضفاء المشروعية الدِّينية عليها)24.
    • ويدَّعي بعضهم بأنَّ الأحاديث المُدوَّنة في الكتب (“السِّتة الصِّحاح” لم تكن معزولة أيضاً عن الولاء لسياسات حُكامٍ على مذهب أهل السُّنة في المشرق الإسلامي)25.
    • ويُزعم بعضهم أنَّ (الاستبداد الفكري الذي بدأ بعصر التدوين واكتمل باستقالة العقل العربي الإسلامي على يد “الغزالي” .. ففي عصر التدوين بالقرن الثاني تم تأطير الإسلام ضمن أُطُرٍ نبعت من المعارف السائدة)26.

وزعم الحداثيون أنَّ تأخُّر تدوين الحديث النبوي أدَّى إلى نتائج يُمكن إجمالها فيما يلي27:

  • أ- صعوبة التَّحقُّق من مصداقية السُّنة، ممَّا (أدَّى إلى اعتبار السُّنة أقرب إلى التحريف منها إلى الضبط)28.
  • ب- اختلاط الحديث بـ (الموروث الشَّفَهِي للصحابة الأوَّلين وغيرهم من أصحاب الفِرَق والتيارات والمدارس الإسلامية المُبكِّرة والمُتأخِّرة، وهذا ما أسهم في إنتاج بنية نصِّية مركبة … نص على نص)29.
  • ج- دخول “الحديث الموضوع” بشكل كبير جداً وسهل، ممَّا أدَّى إلى (تعاظم حجم النص الحديثي على نحوٍ هائل)30.

حاول الحداثيون العرب إخضاع حركة التدوين للسنة النبوية لمعايير التفسير الماركسي للتاريخ، والقائم على الصراع والنِّزاع الدائم بين الطبقات؛ ليصلوا إلى أنَّ حركة التأليف والتدوين لم تسلم من هذا النزاع وذلك الصراع السياسي على السلطة.

وهم بهذا الصنيع ضربوا عرض الحائط ما وضعه علماء الإسلام لأسس وركائز علمٍ شَهِدَ لهم العالم بأسره بتميُّزهم وتفرُّدهم به ألا وهو علم الحديث، وما اتصل به من علوم الجرح والتعديل والإسناد والرواة وغيرها.

وادَّعوا كذلك بأنَّ (الصراعات والمنازعات السياسية التي اندلعت بعد الصدر الأوَّل من الإسلام أدَّت إلى اختلاق الكثير من الروايات والأحاديث تأييداً لها أو تسويغاً، واستمر هذا الوضع حتى أصبح الحديث الصحيح من الحديث الموضوع كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود)31.

يُتبع،،،

  1. انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 156). ↩︎
  2. نقد الخطاب الديني، (ص 100). ↩︎
  3. المدخل إلى الدراسات التاريخية، لانجلوا وسينوبوس، ترجمة: عبد الرحمن بدوي (ص 140). ↩︎
  4. تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (ص 37). ↩︎
  5. نقد الخطاب الديني، (ص 89). ↩︎
  6.  أضواء على السنة المحمدية، (ص 20). ↩︎
  7. النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 70). ↩︎
  8. انظر – في مسألة جمع السنة وتدوينها وجهود السلف في ذلك: عظمة السنة النبوية، (ص 78-95). ↩︎
  9. الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 244). ↩︎
  10. من فيصل التفرقة إلى فصل المقال.. أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، (ص 175). ↩︎
  11.  المصدر نفسه، (ص 176). ↩︎
  12. حياة محمد، د. محمد حسين هيكل (ص 47). ↩︎
  13. انظر: النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 63). ↩︎
  14. النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 62). ↩︎
  15. نحو فقه جديد، (2/109). ↩︎
  16. دائرة المعارف الإسلامية، (7/374)؛ المستشرقون والحديث النبوي، (ص 195). ↩︎
  17. نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، (ص 80). ↩︎
  18. (الجيتو): مكان داخل المدينة أو خارجها محاط بسورٍ عالٍ له بوابة أو أكثر تغلق عادة في المساء، ويمثل أشهر الأشكال الانعزالية اليهودية في العالم، بحيث أصبح يُطلق على سبيل التعميم على كلِّ شكلٍ من أشكال الحياة اليهودية الانعزالية وسط الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها. ↩︎
  19. شِيبَ: أي: خُلِطَ. ↩︎
  20. أضواء على السنة المحمدية، (ص 181). ↩︎
  21. فجر الإسلام، (ص 255). ↩︎
  22.  الحداثة وموقفها من السنة، (ص 173). ↩︎
  23.  السيرة النبوية الوحي والقرآن والنبوة، (ص 94). ↩︎
  24. تكوين العقل العربي، (ص 67). ↩︎
  25. التراث وقضايا العصر، د. محمود إسماعيل (ص 51). ↩︎
  26. دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع، (ص 217). ↩︎
  27.  انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 177). ↩︎
  28. الإسلام هو القرآن وحده، توفيق صدقي، مجلة المنار، (مجلد 12)، (ص 912). ↩︎
  29. النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 61). ↩︎
  30. المصدر نفسه، (ص 238). ↩︎
  31. النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 61). ↩︎
المصدر
شبكة الألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى