قضايا تربويةمقالات أخرى

آيات الذرية في سورة البقرة ومضامينها التربوية

الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124].

إن المتأمل في هذه الآية الكريمة، وهي أول آية جاءت فيها لفظة الذرية في القرآن الكريم، يلحظ أنها ركزت على قضيتين أساسيتين في حياة الإنسان، وهي: القيام بالواجبات الشرعية، واعتماد الأولاد على أنفسهم، وكأنها في رأيي مقدمـة لبقية الآيات المتناولة للفظة الذرية:

أولًا: القيام بالواجبات الشرعية على أكمل وجه:

إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتكاليف شرعية لا تقوم الحياة ولا تصلح إلا بها، وجعل لكل منهم إرادة الخير والشر، وكل ذلك يدور في فلك قضيَّة من أهم القضايا التي وُجد الإنسان من أجلها تلكم هي: قضية الابتلاء؛ قال الله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2].

وقضية الابتلاء هذه كان أشرف الخلق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عرضة لها، بل أشد الناس بلاءً؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: “أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ: أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَـا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا“؛ (صحيح البخاري، حديث رقم: 5648، كتاب: المرضى، باب: أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل).

وفي الحديث الشريف سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي النـاس أشد بلاءً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ: َيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ“؛ (سنن الترمذي، حديث رقم 2398، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في الصبر على البلاء).

المهم في هذه القضية أن الإنسان يجب أن يستقر في ذهنه وقلبه وشعوره، ويربي أولاده ومَن حوله على أن كل شيء بقضاء الله تعالى وقدره، وأن يتفاعل مع الابتلاء تفاعلًا إيجابيًّا سواءً كان الابتلاء شرًّا، أم خيرًا بما ورد من نصوص الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، فكلاهما خير له، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”؛ (صحيح مسلـم، حديث رقم 7500، كتاب: الزهد، باب: المؤمن أمره كله خير).

ثانيًا: اعتماد الأولاد على أنفسهم:

إن الرفعة والمنزلة التي حصلت للآباء والأجداد بما لاقوه في حياتهم من ابتلاء، وتفاعلوا معه تفاعلًا إيجابيًّا للغاية ربما لا تحصل هذه الرفعة والمنزلة للأولاد بالوراثة، فسنة الله تعالى الجارية أن يجتهد الأولاد لتأسيس مكانتهم الاجتماعية بطاعة الله تعالى، وطلب مرضاته، وبالصبر، وبالسهر، والتعب، والجد، والاجتهاد، والمثابرة، وبذلك تتحقق لهم بإذن الله تعالى المكانة المرموقة التي يتطلعون إليها، فمن جَدَّ وَجَدْ، ومن سار على الدرب وصل، أما من حاد وابتعد، وظلم نفسه بأي نوع من أنواع الظلم، فقد وضع لنفسه عقبات، وحواجز حسية، ومعنوية تقف حائلًا أمام تقدُّمه، وتفوُّقه، وحصوله على ما يتطلع إليه من آمال وطموحات.

ومن صور التربية الخاطئة اليوم لدى كثير من الآباء:

إهمال هذا التوجيه بمعنى أنهم لا يغرسون في أولادهم في سني حياتهم الأولى الاعتماد على النفس، وتكليفهم ببعض المهمات اليسيرة لأنفسهم خاصة، ولوالديهم عامة، من باب تدريبهم، وتعويدهم لِتَحَمُّلِ مسؤوليات أكبر في المستقبل، فتجد الوالدين فقط منهمكين في تلبية جميع احتياجات أولادهم؛ بحيث لا يشعرونهم البتة بمسؤوليتهم في هذه الحياة، فيشبون على ذلك، وهم لا يعرفون من أمور حياتهم العملية شيئًا، ولو صادف الولد أي عارض في حياته، فإنه لا يعرف كيف يتصرف! وأول ما يفكر فيه هو البحث عن والديه لحل المشكلة التي واجهتْه، وهذا للأسف واقع مشاهد ومحسوس!

لذلك أضع هذا التوجيه التربوي الإسلامي المهم أمام الوالدين للعمل على تطبيقه مع أولادهم، وربما لو نظروا بعين فاحصة لمن أخذ به وطبَّقه مع أولاده، لوجدوا حقيقته، وثمرته، وشاهدوا الفرق بين أولادهم، وبين أولاد غيرهم.

الآية الثانيةقال الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128].

أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة مضامين تربوية مهمة؛ هي: الدعاء المستمر للنفس وللأولاد، وطلب العلم الشرعي، والتبصر بأمور الدين، والتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وفيما يلي عرض لهذه المضامين:

أولًا: الدعاء المستمر للنفس وللأولاد:

إن الدعاء عبادة عظيمة يتجلى فيها الافتقار، والخضوع، والحاجة لله جلَّ وعلا، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “الدعاء هو: العبادة“؛ (سنن أبي داود، حديث رقم 1479، كتاب: الوتر، باب: الدعاء)، ثم إنه بحـول الله تعالى وقوته يصارع القدر، ويرد شره، ويستعجل خيره، وثبت في الحديث الشريف عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يغني حذرٌ من قـدر، والدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل، فيتلقـاه الدعاء، فيعتلجـان إلى يوم القيامة “؛ (الحاكم في المستدرك، حديث رقم: 1813، كتاب: الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِخَطِيئَةٍ يَعْمَلُهَا“؛ (سنن ابن ماجه، حديث رقم: 90، كتاب: السنة، باب: في القدر).

وإن الله تعالى لا يرد مَن دعاه وتوجـه إليه، فهو الكريم الجوَاد اللطيف بعباده، وقد تأكَّد ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، فالأهم أن ندعو الله تعالى ونصدق معه، فالإجابة مضمونة؛ لأنه سبحانه وعد بهـا، ومن أصدق من الله تعالى وعدًا ووفاءً؟!

إن أفضل ما يدعو به الإنسان المسلم هو أن يكون من الموحدين لله تعالى قولًا وسلوكًا، وأن يتعدى هذا الدعاء إلى صلاح الذرية؛ لأن صلاحهم مطلب كل والدين ينشدان الخير، والاستقامة لأولادهم، وأولاد أولادهما إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.

ولقد سمعت أذناي أكثر من مرة آباءً يدعون لأولادهم بالهداية والصلاح بعد أن تلقَّفتهم الشهوات، وأصدقاء السوء، والعياذ بالله، فانحرفوا عن جادة الطريق، وبعد مناجاة وإلحاح، وقُربٍ من الله تعالى، رأيت هؤلاء الأولاد، وقد عادوا إلى الطريق المستقيم، فحافظوا على الصلوات، وبروا والديهم، ووصلوا أرحامهم، وأكملوا مشوارهم العلمي والعملي!

فاحرص أيها الأب، وأيتها الأم على هذا التوجيه المبارك، فله من الخير والبركة ما لا يخطر في بالكما.

ثانيًا: طلب العلم الشرعي والتبصر بأمور الدين:

من أوجب الواجبات على المسلم أن يتبصر بأمور دينه؛ لكي يستطيع أن يعبد الله تعالى وَفق ما شرع من غير زيادةٍ أو نقصان، فقد أكدت الشريعة الإسلامية طلبَ العلم في أكثر من توجيه؛ قـال صلى الله عليـه وسلم: “طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ“؛ ( سنن ابن ماجه، حديث رقم: 224، كتاب: السنة، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم)، وقـال صلى الله عليه وسلم: “مَـنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ“؛ (صحيح البخاري، حديث رقم:71، كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين).

ولا شك أن تَعَلُّمَ الوالدين العلوم الشرعية الأساسية ينعكس إيجابًا، وبشكل طبيعي على الأولاد، فيتعلمون من والديهم بالمحاكاة، والتقليد، والسؤال عما يعرض لهم في حياتهم من تساؤلات، واستفسارات تقتضيها مراحل عمرهم التي يمرون بها.

وفي الوقت ذاته يجب على الوالدين أن يحرِصا على اقتناء الكتب الشرعية الأساسية؛ مثل: تفسير القرآن الكريم، ومختصر صحيح البخاري ومسلم، وبعض كتب الفقه المختصرة، ومجموعة من كتب الفتاوى للعلماء المعتبرين، ومجموعة من كتب الأعلام والسير، والموسوعات العلمية، وما أشبه ذلك، ولعل أسطوانات “الكمبيوتر” الآن تقدم الكثير من العلوم الشرعية بسرعة فائقة، وبأسعار زهيدة، وربما مجانية.

وفي يقيني إذا نشأ الأولاد على هذا الجو العلمي العائلي، الأب من جهة، والأم من جهة ثانية، فلا شك ولا ريب سيؤثر ذلك إيجابًا على تبصير الأولاد بالكثير من العلوم الشرعية، وتكون في الوقت ذاته سياجًا وحصنًا منيعًا بحول الله وقوته من الانحراف، وارتكاب المحظورات الشرعية.

ثالثًا: التوبة والإنابة إلى الله تعالى:

لا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يخطئ عدا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد عصمهم الله من الخطأ والزلل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقـال: ” كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ” ( سنن الترمذي، حديث رقم: 2499، كتاب: صفة القيامة، باب: في استعظام المؤمن ذنوبه).

والمضامين الشرعية من القرآن الكريم، والسنة المطهرة في هذا الموضوع كثيرة جدًّا، وليس هذا مجال بسطها، ولكن هدفنا هنا التذكير بأهمية التوبة والاستغفار في حياة المسلم، فالله تعالى تواب رحيم يَقبل توبة عباده، ويفرح بها سبحانه وتعالى مهما بلغت درجة ذنوبهم وعصيانهم.

ولعل ذكر شيء من المضامين الشرعية الحاضة على التوبة، يذكرنا والقارئ الكريم بأهميتها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8]، وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ“؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 6960، كتاب: التوبـة، باب: في الحض على التوبة والفرح بها).

وإنني أؤكد هنا تأكيدًا جازمًا أن من كان بالله أعرف، فهو منه أخوف، فمن عرف الله حق المعرفة بأنه الخالق المدبر القادر، الغفور الرحيم، له الأسماء الحسنى والصفات العلى بيده ملكوت السماوات والأرض إذا أراد شيئًا قال له: كُنْ فَيَكُونَ: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، فلن يقدم إنسان كائن من كان على عصيانه، بل يكون شديد الحرص على كسب مرضاته وطاعته، وإن عَرَضَ له عارض مِن زلة ومعصية تذكر الله تعالى، فعاد إليه تائبًا نادمـًا؛ قـال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].

الآية الثالثةقال الله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 266].

أشارت هذه الآية الكريمة إلى خمسة مضامين تربوية مهمة؛ هي: العمل بطاعة الله فيما أوتي الإنسان من مال، والتخطيط الجيد لاستثمار المال، وتعليم وتدريب الأولاد على المحافظة على الأموال، والحذر من إنفاق المال في غير ما شرع الله تعالى، والتفكر في آيات الله والاتعاظ بالغير، وفيما يلي عرض لهذه المضامين:-

أولًا: العمل بطاعة الله فيما أوتي الإنسان من مال:

المالُ نعمة عظيمة من الله تعالى، وهو زينة الحياة الدنيا بنص القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، وقـال تعـالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].

ولكنَّ الشارع الحكيم أمر رَبَّ المال بإقامة حق الله فيه بإنفاقه في الوجوه الشرعية من دفع الزكاة للمستحقين، وإطعام الطعام، ومواساة الفقراء، والمساكين، ورغب في أعمال البر من إنشاء المساجد، والدور الوقفية، وما أشبه ذلك، وَحَذَّرَ من الإسراف والتبذير اللذين هما صفة الشياطين؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 27]، وفي مقابلها صفة التوسط والاعتدال في الإنفاق، وهي صفة عباد الرحمن؛ كما أخبر عنهم الله تعالى بقولـه: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]؛ ويقـول ابن كثير رحمه الله: أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم، فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)؛ كَمَا قَالَ: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29].

ثانيًا: التخطيط الجيد لاستثمار المال:

إن الإسلام لا يُحَرِّمُ حب المال، فهو فطرة بشرية، بل يدعو المسلم بالمحافظة على ماله بتنميته، والتخطيط لذلك، وَفق خطط، ودراسات علمية، وقد كان من خيار الصحابة الكرام من هم أصحاب مال، وثراء من أمثال: سيدنا عثمان بن عفان، وسيدنا عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وقدموا للإسلام تضحيات عظيمة كان لها الدور الفاعل في خدمة الدين، فنعم المال الصالح للمرء الصالح؛ كما جـاء في الحديث الشريف أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: “بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ، وَسِلَاحَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ، ثُمَّ طَأْطَأَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ، وَيُغْنِمَكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنْ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ“؛ (مسند الإمام أحمد، حديث رقم: 17096، حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ).

ثالثًا: تعليم وتدريب الأولاد المحافظة على الأموال:

يجب على الوالدين تعليم أولادهم منذ نعومة أظفارهم المحافظة على ما اكتسبوه من مال، والتهيؤ لمواجهة متطلبات الحياة؛ لأن الحياة متجددة، ومتغيرة، ولا يتوقع الإنسان ما يحدث في المستقبل القريب فضلًا عن المستقبل البعيد.

ويحذر كل الحذر من الإسراف على نفسه وعلـى أولاده بتلبية كل رغباتهم، فالصغير لا يدرك الأمور، ولا يحسب للعواقب، فإذا تربى على سهولة وجود المال، ولم يُعَّلِمْه ويُرَبْيه الوالدان الكسب المشروع، والمحافظ على المال، وإنفاقه في جهاته المشروعة، فبدون شك سيشب على ذلك، ويضيـع نفسه وماله، فضلًا عن الأخطار الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على ذلك لمجتمعه وأمته.

رابعًا: الحذر من إنفاق المال في غير ما شرع الله تعالى:

ويجب على الإنسان المسلم أن يحذَر كل الحذَر من التبذير والعبث بماله، إما بإنفاقه في ما لا يرضى الله تعالى، بأي لون من ألوان العبث والمجون؛ من شرب خمر، أو لعب ميسر، أو ارتكاب فواحش؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27].

ويقول ابن كثير رحمه الله: أي: في التبذير والسَّفـه، وترك طاعة الله، وارتكاب معصيته؛ ولهذا قال: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)؛ أي: جحودًا؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته، ومخالفته.

ويجب أن يحذر الإنسان المسلم إذا سلم من هذه المعاصي المحسوسة أن ينفق أمواله رياءً للناس، أو يُتْبِع ما أنفق منُّا أو أذى؛ لأن كل ذلك يمحق بركة المال، وقد يكون سببًا في انحراف أهله وذريته، وهذا ما لا يتمناه، أو يرومه عاقل حصيف.

خامسًا: التفكر في آيات الله والاتعاظ بالغير:

إن التفكر في آيات الله من العبادات المطلوبة من الإنسان المسلم، ويتفرد بها أصحاب العقـول السليمة والفطر المستقيمة التي عرَفت ربها، فعبَدته حق عبادته، ولذلك قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].

لذلك يجب على الإنسان المسلم أن يكون دائم التفكر في آيات الله تعالى؛ مثل: خلق السماوات والأرض، وما أودعه الله فيها من مخلوقات؛ كما أشارت إليه آية آل عمران المشار إليها آنفًا، ومثل: إفقار غني، أو إغناء فقير، أو زوال ملك، أو امتلاكه، أو زوال جاه، أو امتلاكه، وهو ما أشارت إليه الآية موضوع الدارسة (البقرة: 266)، وهذه الصور وغيرها، منها ما هو ثابت في القرآن الكريم، ومثاله: قصة قارون في سورة القصص؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76]، وما بعدها، وفي السنة النبوية الشريفة ومثاله: حديث الثلاثة من بني إسرائيل الأبرص والأعمى والأقرع في: (صحيح البخاري، رقم الحديث: 3464، كتاب: أحاديث الأنبياء)، ومنها ما نقلـه لنا المؤرخون عبر سنين خلـت، ومنها مـا نراه أمام أعيننا من حوادث الزمان، وتقلبات الأيام والليالي، وفيها من العبر والآيات الشيء الكثير، ولكن السعيد من اعتبر، وأخذ العبرة بهذه المشاهد، وأخذ العبرة لنفسه، ونقلها وعلَّمها لأولاده، ومن لهم حق عليه قبل فوات الأوان، ولات ساعة مندم.

ولعله من المناسب الإشارة إلى قصة شاهدتها رأي العين عن شخص كان متوسط الحال، ودخله بالكاد يكفيه مع أسرته، ثم أراد الله تعالى لهذا الرجل سعة في المال، فَرُزِقَ ملايين الريالات عن طريق إرث إحدى قريباته، وأخذ يبدد ماله يمينًا وشمالًا بالشراء تارة وبالسفر تارة أخرى، ولم يحسن تصرف المال ويعمل به وَفق طاعة الله وشرعه، فأخذ المال يتبدد منه شيئًا فشيئًا، وما هي إلا شهور أو سنوات قليلة، وعاد الرجل والعياذ بالله كما كان قبل الميراث!

إن من المطلوب بشكل ملح أن تنقل هذه الصور التي تمثل آيات الله تعالى في مخلوقاته إلى الناشئة والشباب في المدارس؛ ليعرفوا ويطلعوا على عظمة الله تعالى وقدرته في تصريف الأقدار بين الناس، وأن هذه الحياة ما هي إلا دار محدودة الأيام، والله تعالى يداولها بين الناس؛ ليكون الجميع على حذرٍ في التعامل مع هذه الدنيا، وألا تُعطى أكبرَ من حجمها، ولكن من الأهمية بمكان أن يخصص لكل مرحلة دراسية ما يناسبها من هذه الآيات والعبر حسب مستوى التلاميذ.

المصدر
شبكة الألوكة
زر الذهاب إلى الأعلى