الكتبكتب أخرى

القرآن يغيرنا

الفصل السادس من كتاب #القرآن_غيرني لدكتور: محمد علي يوسف

المسيح عيسى بن مريم عليه السلام

السيدة آسية امرأة فرعون

السيدة مريم ابنة عمران

صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن

امرأة نوح

امرأة لوط

بلعم ابن باعوراء

هذه الشخصيات – على تباينها – الواضح تشترك قرآنيا في أمر محوري يوضح خصيصة مهمة من خصائص الخطاب القرآني

إن المشترك بين ذكر هذه الشخصيات في القرآن هو اقترانها جميعا بلفظ المثلكل منهم ذكر على إنه = مثل

“وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡیَمَ (مَثَلًا) إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ یَصِدُّونَ”

“وَضَرَبَ ٱللَّهُ (مَثَلࣰا) لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱمۡرَأَتَ فِرۡعَوۡنَ”

“وَمَرۡیَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَ ٰ⁠نَ ٱلَّتِیۤ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِیهِ مِن رُّوحِنَا”

“وَٱضۡرِبۡ لَهُم (مَّثَلࣰا) رَّجُلَیۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَیۡنِ مِنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَحَفَفۡنَـٰهُمَا بِنَخۡلࣲ وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمَا زَرۡعࣰا”

“ضَرَبَ ٱللَّهُ (مَثَلࣰا) لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱمۡرَأَتَ نُوحࣲ وَٱمۡرَأَتَ لُوطࣲۖ”

” وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَـٰهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُۥۤ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ (فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ) ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَیۡهِ یَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ یَلۡهَثۚ ذَّ ٰ⁠لِكَ (مَثَلُ) ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ * سَاۤءَ (مَثَلًا) ٱلۡقَوۡمُ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَأَنفُسَهُمۡ كَانُوا۟ یَظۡلِمُونَ”

هكذا ترى في الآيات السابقة الاشتراك في لفظ المثل عدا في آية السيدة مريم لكنها تشترك مع ما قبلها بالعطف فهي المثل الثاني للذين آمنوا بعد امرأة فرعون

ذكر الشخصيات في كتاب الله ليس إذاً مجرد سرد تاريخي أو بيان قصصي لأقوام أو لأحداث مرت مرور الكرام

إنه مثل

نموذج

تطبيق عملي لمعاني القرآن وقيم الشريعة وتجليات واقعية لتوجيهات الدين ومقتضيات المعتقد

إنَّ الله أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا، وسنة خالية، ومثلاً مضروبًا”

ورد هذا الأثر موقوفا عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وورد كذلك مرفوعا بأسانيد لا بأس بها

والحق أنها كلمات جامعات ينبغي لمن أراد إلقاء نظرة موضوعية شاملة على القرآن أن يضعها نصب عينيه

إنه عرض موجز لبعض أهم محتويات الخطاب القرآني

أوامر وزواجر

سنن قد خلت

أمثلة مضروبة

تحدثنا في الفصل السابق تفصيلا عن النوع الأخير وهو الأشهر من الأمثلة تلك الأمثال المعنوية التي يعرض القرآن من خلالها تشبيهات لمعقولات بمحسوسات، ولمعانٍ وقيم بصور معروفة ومشاهد واقعية مألوفة

في هذا الفصل نتحدث عن النوع الآخر من الأمثلة

السنن الخالية

النماذج

وإنها لعمري خاصية متفردة يتمتع بها الوحي العظيم تجعل له هذه القدرة التغييرية الواضحة

خاصية يطيب لي أن أسميها “النماذجية”

تلك القدرة على إقامة النماذج الحية وطرحها ظاهرة جلية بين يدي متدبر القرآن

تصوير شامل ومتكامل تبرز من خلاله ملامح واضحة تمام الوضوح لشخصيات يحتاج الإنسان لأن يقف طويلا أمامها

شخصيات قد يجد المرء نفسه وهو يطالع ملامحها كأنما يتأمل انعكاسا لصورته في مرآة أو انعكاسا لتلك التي كان يتمنى أن تكون هي ملامحه في تلك الصورة

أو هي تلك الأخرى التي يخشى أن تكون له يوما وينفر تمام النفور من ملامحها القبيحة

بهذه الخاصية العجيبة يتمكن القرآن بحيوية لا تجد نظيرا لها من تشكيل ملامح الشخصية المسلمة

ومن ثم يغيرها للأفضل

فقط إن قرر صاحب تلك الشخصية أن يقف متدبرا متأملا للنماذج التي يعرضها عليه القرآن

كثيرا ما تكون تلك النماذج مطلقة غير معينة أو محددة فلا نعرف لأصحابها اسما ولا وسماعباد الرحمن

المؤمنون حقا

القانتون والمخبتون

المخلصون

وفي المقابل ستجد نماذج المنافقين

المرجفين

الكافرين

الفاسقين

الظالمين

هكذا تطلق أمثلة ذات ملامح تفصيلية لفئات ربما لا يذكر أسماء أعيانها ولكن يعرفك خصالهم وطبائعهم وهذا هو الأكثر في القرآن حيث محدودية التسمية خصوصا حين يأتي ذكر نماذج الباطل وذلك لتأكيد كون حقيقة المعركة الرئيسية للمصلحين هي مع الخلل نفسه، والمبتغى الرئيسي هو بيان زيفه وبطلانه بإطلاق واطراد ثم محاولة إصلاحه بشكل عام وشامل يناسب الحاضر والمستقبل قبل الانشغال بتفاصيل آنية وأعيان فانية

كم مرة ذُكر في القرآن كافر باسمه؟

وكم مرة عُين منافق بلقبه؟

وكم مرة أُخبر عن فاسق أو فاجر بنَسَبه؟

و ما نسبة ذلك لذكرهم بصفاتهم وأفعالهم وقبيح أعمالهم؟

إبليس.. فرعون.. هامان.. قارون.. أبو لهب.. السامري.. امرأة نوح وامرأة لوط

هؤلاء تقريبا هم كل من ذُكروا من أمثلة أهل الباطل بأعيانهم وأسمائهم في القرآن

أضف إليهم إن شئت بعض الآيات التي وردت حولها روايات تذكر كونها نزلت في شأن أناس بأعيانهم كالنمرود وعقبة بن أبي معيط والوليد بن المغيرة وبرصيصا العابد المنتكس وبلعم بن باعوراء الذي أوتي آيات الله فانسلخ منها لكن هؤلاء لم يذكروا بأسمائهم أو أنسابهم أعيانا و لتظل الآيات التي تحدثت عنهم على إطلاقها ولتبقى صالحة لتطبيقها وقياسها على كل من سار على ذات النهج وتنمط بنفس النمط السلوكي

هذا طبعا بخلاف الآيات التي تحدثت عن أقوام بمجملهم كقوم عاد وثمود وبني إسرائيل والسحرة وغيرهم

لكن حتى هذه النماذج المعدودة التي ذُكرت بأسمائها أو تحدثت عن أشخاص معلومين = يعد أصحابها رؤوسا وأمثلة لأنماط بشرية معروفة

وهنا تبرز فكرة النماذجية التي أتحدث عنها

على سبيل المثال نجد نموذج الغني المستكبر بماله و المغتر بعلمه وثرائه = ويمثله قارون طبعا وأيضا صاحب الجنتين

ثم نموذج المستبد المتسلط والطاغية المتجبر الذي يجتمع فيه الغرور مع الغباء والبطش وبعض الحمق والسفه وربما شيء من الجنون وذلك أخطر أنواع الطغاة = ويمثله بلا منازع فرعون

أما نموذج المُضل المحرِّف الذي يضلل الخلق على علم ويكذبهم لأجل غايات حقيرة تسول لها بها نفسه فيمثله السامري بلا شك

وهامان كنموذج لحاشية السلطان الجائر التي تطيعه في كل باطل وتمهد له كل منكر

وبنو إسرائيل كنموذج صارخ للتمرد والعصيان وسوء الأدب مع الله ورسله

وهكذا في سائر النماذج المسماة في القرآن لأهل الباطل

الأصل كما ترى في النماذج المذكورة أنها تصلح بشدة لجعلها معيارا لقياس الأنماط السلوكية الشبيهة في كل زمان ومكان

“وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ”

هذا بالنسبة لنماذج وأمثلة الباطل وأهله

في المقابل تكثر النماذج المعينة والأمثلة المعلومة لأهل الحق وحملة الضياء المحددين والمعروفين بأعيانهم

وكأنها لوحة شرف نورانية خلدت ذكر الصالحين عبر الأزمان ووجهت رسالة لكل من يمر مفادها: دونك الأسوة والعبرة والمثل = فبهداهم اقتده

الصدِّيقون والصدِّيقات والصالحون والصالحات

آسية امرأة فرعون

مريم ابنة عمران

وأمها

وأم موسى

ووليدها نفسه سيدنا موسى عليه السلام

وسائر النبيين والمرسلين الذي ذكروا إجمالا وتفصيلا بين دفتي المصحف

كل هؤلاء عُيِّنوا بأسمائهم وعرفوا بشخصياتهم

وهذه الشخصيات أيضا تنطبق عليها قاعدة النماذجية التي أتحدث عنها

أما الأنبياء والمرسلين فكل من يتدبر قصصهم في القرآن وكيف جعل الله سيرهم ومواقفهم يدرك كون تلك السير = مشعل هداية واقتداء لكل من تدبرها “أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ”[ اﻷنعام 90]

إنها نماذج تحوي العبرة والموعظة والذكرى وتعين كل سالك إلى الله على الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد

“وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ”

كل نبي من الأنبياء ذكر القرآن قصته أو موقف من مواقف حياته = ستجد فيه نموذجا ومثالا

ستجد في حياة نبي الله آدم نموذج المسارعة إلى التوبة والندم بعد المعصيةوستجد في حياة نبي الله نوح نموذج التفاني الرهيب في الدعوة إلى الله وطرق جميع أبوابها والصبر المذهل على تكاليفها وعدم استعجال ثمرتها مهما تأخرت

وستلمس في نموذج نبي الله إبراهيم حسن الوفاء بكل ما يُكلف به المرء والإتمام المطلق لما يختبر به الإنسان ويبتلى مهما كانت التضحية والصعوباتوستجد نموذج القوة في الحق عبر مثال نبي الله موسى

ستجد في نبي الله هود ذلك الثبات المدهش في مواجهة القوة الباطشة التي لم يخلق مثلها في البلاد

وستجد نموذج الحرص على القوم وحسن خطابهم في نموذج نبي الله شعيبوستجد العفة والصبر عن الفتن والمغريات في حياة نبي الله يوسف

وستلحظ اليقين الرائع في سيرة أبيه عليه السلام

وسيدهشك في حياة نبي الله داوود كم التوازن العجيب بين جوانب الدين المتعددة من تعبد وتنسك وعلم وجهاد وكل ذلك إلى جوار الملك و الصنعة وكسب اليد

أما الصبر على البلاء وحسن الظن رغم انقطاع الأسباب فسيكون مثلك الأعلى فيه نبي الله أيوب عليه السلام

وهكذا لن تعدم من كل نبي ورسول مثلا وقدوة ونموذجا يحتذى ويلتمس هديه

أما نماذج الصالحين والصالحات من غير الأنبياء فقد كثرت أيضا في القرآن

ولعل كثيرا من طالبي التغيير للأفضل من خلال المنظومة النماذجية للقرآن قد يجدون أثرا مختلفا لهذه النوعية الأخيرة تحديدا

إنها نماذج لشخصيات غير معصومة

أناس هم – على فضلهم – ليسوا بأنبياء ولا مرسلين وهذا يثبت من خلال المواقف العملية أن الأمر ممكن وأن سلوك سبيل الحق يسير على من يسره الله عليه

ما فعله السحرة عند توبتهم وإسلامهم وكيف ثبتوا وضربوا أعظم مثل في الثبات والقوة في الحق

موقف مؤمن سورة ياسين الذي وجد لنفسه دورا في الدعوة والحرص على هداية الناس رغم وجود ثلاثة أنبياء في زمانه

ما صدع به مؤمن آل فرعون مع وجود موسى وهارون عليهما السلام

ثبات امرأة فرعون رغم فساد البيئة التي يحيطها بها زوجها الطاغية

صمود أصحاب الكهف رغم المغريات والفتن

بعد كل ذلك هل تجد مجالا لتلك الحجج التي يصدرها كل عاجز حين يدعى لامتثال منهج الوحي في حياته؟ حجة عدم الاستطاعة

حجة ضعف النفسحجة الافتقار إلى العصمة

باختصار جامع حجة كوننا لسنا أنبياء

كل ذلك توفره وتثبته تلك النماذج والأمثلة القرآنية من غير الأنبياء لتنضم مع نماذج الكمال المطلق في سير الأنبياء والمرسلين ولتشكل تلك المنظومة الرائعة التي نتحدث عنها

منظومة النماذجية القرآنية والأمثلة الحية التي تعين طالب الحق على الاقتداء والتأسي بعد أن يثبت له عمليا أن تلك القيم القرآنية المبتغاة ممكنة التحقيق وأن ثمة من عاشوا وماتوا عليها فما الذي يمنعك إذا من أن تقتدي بهم؟! وأن تتغيرللأفضل

#تغيرنا_نماذجيته

الفصل السادس من كتابي

#القرآن_غيرني

#القرآن_يغيرنا

زر الذهاب إلى الأعلى