أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” (2)
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد: من أهم أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” ما يلي:
الأسلوب الثاني: إنكار المكانة التشريعية للسُّنة:
إنَّ الحرب على السنة النبوية هي حرب تدريجية، وفي الوقت ذاته هي حرب شاملة، فلا تترك ثغرةً إلاَّ وتُحاول الولوجَ منها والغارةَ من خلالها على السنة النبوية، في محاولة بائسة ويائسة للنَّيل منها وهدمها، فهم ابتداءً حاولوا نفي قدسيتها وكونها وحيًا من عند الله تعالى، فاستجاب لهم مَن استجاب، واغترَّ بهم مَن اغتر، ولكن هناك مَن رفَضَ هذا القولَ وردَّه، فدخلوا من بابٍ آخر؛ لِيَسْتَمِيلوا أُناسًا آخرين، فكان الباب هو إنكار مكانتها التشريعية، وقد اتَّبعوا أساليب مختلفة؛ لتحقيق هدفهم، فمن أساليب الحداثيين العرب في إنكار المكانة التشريعية للسنة النبوية ما يلي1:
- منهم مَنْ يزعم أنَّ حُجيَّة السُّنة وُضِعَتْ مُتأخِّرًا من قِبَل الشافعي، مع رفض الصحابة لهذه الحُجِّية: ذهب كثير من الحداثيين العرب إلى أنَّ السُّنة لم تكن حُجَّة عند المسلمين الأوائل حتى أسَّسَ حجِّيَّتَها الشافعي بتفسيره “الحكمة” في القرآن بأنها “السنة النبوية” ثم ساق الشافعي في كتابه “الرسالة” و”الأم” الأدلة لإثبات حجيَّتها، ويُخالفه في هذه الحُجيَّة فريق معتبر من الصحابة واعتبروها بأنها تجربة بشرية محضة2، (فإذا مضى البعض يؤسِّس لحضور سنة النبي بوصفها اجتهادًا يعكس حدود خبرة النبي وواقع تجربته، وهو التصور الذي سوف يبلغ بالبعض من الصحابة أنفسهم، حدود إمكان تجاوزها، فإنَّ الشافعي قد مضى في المقابل إلى تثبيت هذا الأصل كأصلٍ مُطلَق)3.
- ونحن لا ندري مَنْ يقصدون بالصحابة الذين رأوا عدم حجيَّة السنة؟! ومن أين لهم بآرائهم تلك؟! وما هي مصادرهم في ذلك؟!
- وقد أجمعت أمة الإسلام قاطبة – من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأئمة المجتهدين، وسائر علماء المسلمين – على حجية السُّنة ووجوبِ العمل بها، والتحاكم إليها، والسَّير على هديها في كل جوانب حياة المسلمين؛ بل لم نجد إمامًا من الأئمة المجتهدين يُنكر الاحتجاج بها، والعمل بمقتضاها إلاَّ نفرًا ممَّنْ لا يُعتدُّ بخروجهم على إجماع المسلمين من الخوارج، والروافض ومَنْ نحا نحوهم وشذَّ شذوذهم في هذا العصر4.
- ومن الثابت تاريخيًّا أنَّ الإمام الشافعي رحمه الله جاء مُتأخِّرًا عن الإمامين الجليلين: أبي حنيفة ومالكٍ – رحمها الله، وكذلك الإمام الليث بن سعد رحمه الله، وعن علماء المدينة السبعة، وكلُّهم مُجمِعون على حجية السنة النبوية والعمل بها، وليس الإمام الشافعي – كما يدَّعون – هو مَنْ أسَّس حجية السُّنة، وغاية ما هنالك أنه أوَّل مَنْ أسَّس لعلم أصول الفقه؛ كعلمٍ مُستقل، وإلاَّ فهو موجود في ممارسات الفقهاء من قبله، وإنما هو أوَّل مَنْ جمع وصنَّف ووضعه في إطار علمٍ مستقل.
- وهناك فَرْقٌ بين علم أصول الفقه، وبين تدوين علم أصول الفقه؛ فعِلمُ أصول الفقه كان موجودًا في أذهان العلماء من الصحابة والتابعين، ونشأ مع نشأة الفقه نفسه؛ لأن استنباط الأحكام مُتوقِّف، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يعملون بمقتضى أصول الفقه في معرفة الأحكام الفقهية، ولكنهم لم يُدوِّنوه، فهم لم يقولوا بالحقيقة، والمجاز، وبدلالة العبارة، ودلالة الإشارة، وغيرها من مسائل أصول الفقه، لكنهم كانوا يعملون بمقتضى الحقيقة، والمجاز، ويعملون بمقتضى دلالة العبارة، ودلالة الإشارة، فعِلْمُ أصول الفقه كان مُستقرًّا في أذهان الصحابة رضي الله عنهم، ولكنهم لم يُدوِّنوه، وقواعد علم أصول الفقه كانت مرعيَّة في اجتهاداتهم.
- إذًا؛ يُعتبر الإمام الشافعي رحمه الله أوَّل مَنْ دوَّن في علم أصول الفقه، وكَتَبَ فيه بصورة مُستقِلَّة، وجَمَعَ مسائله في كتابٍ له سمَّاه “الرسالة” تكلَّم فيه عن القرآن الكريم وبيانه للأحكام، والسُّنة النبوية وبيانها للقرآن، والإجماع، والقياس، والناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي، والاحتجاج بخبر الآحاد، وما يكون حُجَّة من الأحاديث وما لا يكون، والخاص والعام.
- وكان سلفنا الصالح يستمسكون بالسُّنة ويهتدون بها، ويحثون على العمل بها، ويُحذِّرون من مخالفتها، ويعتبرونها مكمِّلة للقرآن العظيم وشارحةً له، وإن تعذَّر العثور على الدليل في القرآن الكريم، أخذوه من السُّنة ولا يتجاوزونها إلى غيرها إنْ كان الدليل فيها، وممن نقل الإجماعَ على حجية السنة الإمام الشافعي رحمه الله، إذْ يقول: (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ: على أَنَّ من اسْتَبَانَتْ له سُنَّةُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ له أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ من الناس)5.
- وقال أيضًا: (لم أَسْمَعْ أَحَدًا – نَسَبَهُ الناسُ أو نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ – يُخَالِفُ في أَنْ فَرَضَ اللَّهُ عز وجل اتِّبَاعَ أَمْرِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ، بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل لم يَجْعَلْ لأَحَدٍ بَعْدَهُ إلاَّ اتِّبَاعَهُ، وَأَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ قَوْلٌ بِكُلِّ حَالٍ إلاَّ بِكِتَابِ اللَّهِ أو سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ ما سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا، وَأَنَّ فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا في قَبُولِ الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدٌ، لاَ يَخْتَلِفُ في أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ قَبُولُ الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)6.
- ومن أوضح الآيات الدالة على حجية السنة قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [آل عمران: 164]. وجه الدلالة: دلت الآية الكريمة على أنه صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أمته شيئين: الكتاب، وهو القرآن، والحكمة وهي: السنة، وجاء الربط بينها وبين الكتاب العزيز في مواطن عديدة من القرآن العظيم.
- قال الإمام الشافعي رحمه الله: (فذَكَرَ اللهُ تعالى الكتابَ وهو القرآن، وذَكَرَ الحكمةَ، فسمعتُ مَنْ أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ: سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وهذا يُشبه ما قال، والله أعلم؛ لأنَّ القرآن ذُكِرَ وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذَكَرَ الله مِنَّتَه على خلقِه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز – والله أعلم – أنْ تُعَدَّ الحكمةُ هاهنا إلاَّ سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنها مقرونةٌ مع كتاب الله)7.
- (بل إنَّ إفراد الشافعي لهذا الموضوع جزءًا قليلًا من كتابَيه “الرسالة” و “الأم” يدل على أنَّ الأمر من البديهيات التي عُدَّ المُخالِف فيها – في زمانهم – من الملاحدة الذين لم يُلْقِ لهم علماءُ المسلمين؛ من أصوليين ومحدِّثين وفقهاء اهتمامًا كبيرًا، بل ردُّوا عليهم بما يتناسب مع انتشار شبهاتهم بين الناس، فلم يُفردوا لهم بابًا كبيرًا للردِّ مقارنةً مع ما أفردوه لإنشاءِ العلوم الأُخرى؛ فالشافعي لم يُفرد لمسألة حُجيَّة السُّنة إلاَّ صفحات قلائل، وإذا تم إزالة هوامش المُحقِّق بالكاد يكون أفردَ لها صفحةً أو صفحتين من “الرسالة”، ولم تتجاوز الخمس صفحات في كتابه “الأم”، وكذا لم يتوسَّع بإيراد الأدلة العقلية والنَّقلية في المسألة، وهذا يدل – خلافًا لما قاله الحداثيون – على أنَّ حُجيَّة السُّنة لم يبلغ مُنكِروها من الانتشار والتأثير ما احتيج لإفراد كتبٍ أو أبوابٍ واسعة للرد عليهم، بل الظاهر هو استقرار مسألة حُجيَّة السُّنة لدى هذه الأجيال الأُوَل، فهي ثابتة لديهم نقلًا، ومستقرة في وجدانهم عقلًا، فلم تحتج إلى كثير نقاشٍ في مسألة إقرارِ حجيتها)8.
- ومنهم مَنْ يُفرِّق بين (النبوة) و (الرسالة) فيزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حجَّة مُشرِّع في أداء (الرسالة) التي هي (القرآن الكريم)، أما أحاديثه (النبوية) لا تعدُّ تشريعًا؛ لأنها تجربة شخصية بشرية، لا عصمة للنبي فيها: فيزعمون أنَّ (سيدنا محمد بن عبد الله رجل يحمل صفتين هما: صفة الرسول “من الرسالة” وصفة النبي “من النبوة” تمامًا كما يحمل أحدنا اليوم صفتين من عمله؛ كأن يكون مهندسًا، ومديرًا للعلاقات العامَّة)9.
- وأنَّ (الطاعة في القرآن هي للرسول، ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ [آل عمران: 32]. وقد جاء أمر الاقتداء بالرسول في الصلاة والزكاة في مقام الرسالة.. لذلك فإنه لا يوجد لدينا أحاديث رسولية؛ لأنَّ رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، وقد وعى الصحابةُ ذلك فلم يكتبوا عنه عندما كان يحتضر على فراش الموت ما أراد أنْ يوصيهم به؛ لأنه قد أدَّى الرسالة مُتمثِّلة في الذِّكر الحكيم)10.
- وأمَّا (في مقام النبوة يقوم محمد النبي بالاجتهاد والعمل حسب المعطيات والإمكانيات والأرضية المعرفية السائدة)11، إذًا فـ (الجانب المعرفي المادي والتاريخي في “النبوة”، والجانب التشريعي في “الرسالة”)12.
- فهذا التفريق الغريب والمبتدع ساقط ابتداءً، ومن الوضوح بمكان في الرد عليه قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ﴾ [الأعرف: 157]؛ وقوله تعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ ﴾ [الأعرف: 158]. وجه الدلالة: الأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم بصفتيه “الرسول” و”النبي” مِمَّا يُسقط ادِّعاءهم المزعوم؛ بالتفريق بينهما.
- وممَّا هو معلوم بالضرورة أنَّ كلَّ رسولٍ نبيٌّ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولًا، ومن ثَمَّ، إذا جاءت صيغة الخطاب بلفظة “رسول” مفردة، فيقصد بها الجمع بين المقامين: مقام الرسالة ومقام النبوة، من باب دخول الجزء في الكل. أمَّا ما يُروِّجه هؤلاء المبتورون، فهذا ما لا دليل عليه من كتابٍ أو سُنَّةٍ أو حتى من مقياس اللغة، ومقتضيات العقل. وإنما هي أغلوطة فارغة لا قيمة لها، ولا وزن.
- ومنهم مَنْ يزعم عدم تعلُّق وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم بالأمور الدنيوية: ويَقصد الحداثيون “بالأمور الدنيوية” كلَّ ما يتعلَّق بشؤون الحياة الدنيا، بما في ذلك علاقات الناس فيما بينهم، وأمور السياسة وإدارة شؤون الدولة والحكم ونحو ذلك.
- فيزعمون أنَّ (كلامه صلوات الله عليه في الأمور الدنيوية.. من الآراء المَحْضة، ويُسمِّيه العلماء “أمر إرشاد”.. وفي القواعد الأصولية أنَّ العمل بأمر الإرشاد لا يُسمَّى واجبًا ولا مندوبًا؛ لأنه لا يُقصد به القُربة ولا فيه معنى التعبُّد.. إنهم معصومون فيما يؤدُّونه عن الله تعالى، وليسوا بمعصومين في غير ذلك من الخطأ والنسيان والصغائر.. إنَّ مجرَّد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقتضي الوجوب)13.
- وبعضُهم يُفسِّر “الحكمة” المذكورة في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34] بأنها (تعليمات أخلاقية وردت كجزءٍ من أمِّ الكتاب، هي الوصايا العشر عند عيسى كما في قوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴾ [آل عمران: 48] وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ ﴾ [الإسراء: 39]، نلاحظ في هذه الآيات أنه لا يوجد فيها تشريع ولكن فيها شرح للوصايا إضافةً إلى تعليمات أخلاقية ليست تشريعية)14.
- ويبدو أنَّ أصحاب هذا الرأي لا يستطيعون التَّمييز أو التَّفريق بين ما هو داخل في أمور الدنيا المحضة، التي لا علاقة لمقام النبوة بها، والتي عبَّر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)15، وبين ما هو داخل في أمور الدنيا من جهة ومرتبط بالشريعة من جهة أخرى؛ كأمور الزواج، والطلاق، والميراث، والمعاملات، وهذا ممَّا لا يُجادل عاقل في أن الإسلام قد اختصَّها بأحكامٍ رغم أنها أمور دنيوية، ولكن كان يجب تنظيمها وَفق شرع الله تعالى.
- ومن الأمور الدنيوية أيضًا التي نظَّمها الشرع ووضع لها قواعدها وأسسها نظام الحكم والسياسة وغيرها من المسائل والأمور التي يُمكن الجمع فيها بين كونها أمرًا دنيويًا وكونها ذات صلة مباشرة بالدِّين من حيث تنظيمها ووضع التشريع المناسب لها.
- ومنهم مَنْ يدَّعي بأنَّ وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم هي الدعوة إلى دين الله، وَوِلايته على قومه ولاية رُوحية فقط، ولا شأن له بالحُكم والسياسة، والمُلك، وإدارة شؤون الدولة: فقد زعم بعضهم أنَّ (وِلاية الرسول على قومه وِلاية روحية، منشؤها إيمان القلب وخضوعه خضوعًا صادقًا يتبعه خضوع الجِسم، وولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد إخضاع الجسم من غير أنْ يكون لها بالقلوب اتصال، تلك هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض، تلك للدين وهذه للدنيا… تلك زعامة دينية وهذه زعامة سياسية، ويا بُعْدَ بين السياسة والدِّين)16.
- و(توجيهات القرآن الكريم للرسول أنه ليس ملزمًا إلاَّ بالبلاغ، وأنه ليس مسيطرًا ولا حفيظًا ولا حتى وكيلًا، وأنَّ مهمته تنتهي عند البلاغ المبين، وأنه ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾ [البقرة: 272] و﴿ وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ﴾ [عبس: 7])17.
- و(المملكة النبوية عملٌ منفَصِلٌ عن دعوة الإسلام وخارج حدود الرسالة.. ولا يهولنك أنْ تسمع أنَّ للنبي صلى الله عليه وسلم عملًا كهذا خارجًا عن وظيفة الرسالة، وأنَّ مُلكه الذي شيَّده هو من قبيل ذلك العمل الدنيوي الذي لا علاقة له بالرسالة، فقواعد الإسلام ومعنى الرسالة وروح التشريع وتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم كلُّ ذلك لا يُصادم رأيًا كهذا… فلماذا خَلَت دولتُه من كثير من أركان الدولة ودعائم الحُكم؟ ولماذا لم يصرف نظامَه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدَّث إلى رعيته في نظام المُلك وفي قواعد الشورى؟.. ولماذا ولماذا)18.
- وهذا واللهِ من العَجَب العُجاب، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس مسيطرًا على قلوبهم ولا حفيظًا عليها، فلا يملك هدايتهم إلى الإيمان، ولا يملك إخضاعهم للدخول في دين الله تعالى، فهذه ليست مُهمَّته ولا وظيفته، وإنما عليه إبلاغهم رسالة ربهم، فمَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر – وهو مسؤول عن اختياره، فأين ذلك من فهمهم المُنحرف والضال؟! وما علاقة ذلك بكونه مُنَظِّمًا لحركة حياة أُمَّتِه وَفق المنهج الإلهي القويم في قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1-4]. فالقرآن هو المنهج، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المُبلِّغ لهذا المنهج، وهو الأسوة في تطبيقه، والقُدوة في تحويله إلى واقع عملي.
- ولْنسألْ أصحابَ هذه الدعوى: أين هذا الفراغ الذي تزعمونه في أركان دولة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي أرسل السفراء، وعَيَّن الولاة، ووقع المعاهدات، وخاض الحروب، وقضى في الأحكام؛ بل أرسل القضاة إلى سائر أقاليم الدولة، كلُّ هذا وغيره الكثير ممَّا شهد به وله القاصي والداني بعد تتبُّع سيرته ودراستها، أليس في هذا ما يدل على تلك التجربة الإسلامية الرشيدة في الحكم، التي تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان.
- ومنهم مَنْ يدَّعي بأنَّ السُّنة لا تستقل بالتَّشريع، وتقتصر وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم على بيان القرآن وتفسيره لا غير: انتقد كثير من الحداثيين العرب ما ذهب إليه أئمة الإسلام؛ كالإمام الشافعي وغيره بالتسوية (بين القرآن والسنة من حيث استقلال السُّنة بالتشريع)19. وقالوا: (يجب أنْ نؤكِّد أنَّ السُّنة النبوية لا تستقل بتشريع)20. وزعموا أنَّه (كان تعليم السُّنة يقترن بتفسير القرآن)21 ليس إلاَّ. و(أنَّ أغلب الحديث النبوي ليس مصدر تشريع؛ لأنَّ مُعظم ما وصَلَنا عن طريقه لم ينفرد به النبي صلى الله عليه وسلم عن غيره من الناس لكي يتخذ شِرعةً ومِنهاجًا من بعده)22. وقصروا مهمة السُّنة على بيان القرآن فقط، زاعمين بأنَّ (القرآن هو أصل الدين القويم، وأنَّ السُّنة لم تكن إلاَّ مُبيِّنةً له، ولا بد أنْ يكون البيان صحيحًا واضحًا لا شُبهة فيه)23.
- ثم توصَّلوا إلى نتيجة حتمية وخلاصة نهائية؛ بأنه (طبقًا لهذا الموقف ليست السُّنة مصدرًا للتشريع، وليست هي وحيًا، بل تفسيرٌ وبيانٌ لما أجمَله الكتاب، وحتى مع التسليم بحجية السُّنة فإنها لا تستقل بالتشريع، ولا تُضيف إلى النص الأصلي شيئًا لا يتضمنه على وجه الإجمال أو الإشارة)24.
- ومنهم مَنْ يَقْصر وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ ما يوحى إليه من القرآن فقط، وأمَّا السُّنة فيؤخذ منها الشعائر التعبُّدية؛ لأنه أُمِرَ بها صراحة، وما عدى ذلك لا يلزم الناس فيه اتِّباع السُّنة: فزعم بعضهم أنَّ وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم تقتصر على تبليغ الوحي (دون أنْ يُبدِّل فيه حرفًا، وإلاَّ ﴿ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ [الحاقة: 46] رغم ذلك فقد جُعِلَ من “قوله وعمله” سُنَّةً واعْتُبِرَتْ السُّنة قرآنًا بعد القرآن، بل وُجِدَ بين الأُصوليين لاحقًا مَنْ يُجيز نسخ القرآن بالسُّنة، ممَّا يجعلها – وهي التي يُفترض أنْ تكون تابعةً له – حاكمةً عليه)25.
- وأمَّا (مصطلح “سُنَّة النبي” لا يعني أنَّ سنة النبي وحيٌ بقدر ما يعني أنَّ ما كان يقضي به الرسولُ هو “السُّنة” والعادة المُتَّبعة المقبولة)26، ومعنى ذلك أنَّ سنة النبي ليست تشريعًا للأُمة، وليس ملزمة لهم إلاَّ من جهة العادة المعهودة لدى العرب في القضاء بين الناس!
- وبعضهم يحمل أفعالَ النبي صلى الله عليه وسلم وأقوالَه وحياتَه على الخصوصية التي لا تُعَمَّم على سائر البشر، فسائر أفعالِه صلى الله عليه وسلم تُقاس على “الوصال” – مثلًا – في الصوم، فهذا وإنْ كان جائزًا في حقِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو حرام في حقِّ سائر البشر، ومن هنا لا تُعدُّ السُّنة واجبة الاتِّباع إلاَّ بما أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم التزامه صراحةً27، وقد زعَمَ بعض دعاة الحداثة أنَّ (الخصوصية على كلِّ الأحوال ماثلةٌ دائمًا وتُطَوِّقُ شخصيةَ الرسول وتُحيط به إحاطة السِّوار بالمعصم؛ لأنه هو وحده الرسول، وأنه ليس إلاَّ رسولًا، فكل شيءٍ يصدر عنه ينبثق عن هذه الخصوصية ولا يلزم الناس ما لم يَدْعُ الناسَ صراحةً وعلى وجه التعيين إلى الالتزام به)28.
- لقد خلع الحداثيون بهذا الأقوال عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كلَّ صفات الرسول التي تلزمه كي يُبلِّغ رسالات ربِّه، وغَضُّوا الطَّرفَ عن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم الرئيسة، وهي إقامة الحُجَّة على البشر أمام الله تعالى.
- ليس هذا فحسب، وإنما حَرَموه صلى الله عليه وسلم ممَّا منحوا غيرَه من آحاد الناس، ففي الوقت الذي نفوا عنه صفةَ المُشرِّع، ونفوا عن سُنَّتِه صفةَ الوحي ووجوب تطبيقها، منحوا غيرَه من سائر البشر الحقَّ في سنِّ القوانين في الأمور المدنية والدنيوية؛ بل في أمور الدِّين منحوهم الحقَّ في الاجتهاد والتفسير والتأويل، وهم بشر عاديون، فهم حتى لم يُساووا بينه صلى الله عليه وسلم وبين آحاد الناس ممَّن منحوهم هذا الحق.
- وقد تعلَّلوا بعللٍ واهية وحُجَج داحضة؛ من مثل: تغيُّر الزمان، وتبدَّل الأحوال، وتطوُّر البشر وغيرها من الحُجَج الواهية التي لا تثبت عند النقاش العلمي المبني على أساسٍ صحيحٍ بعيد عن الهوى.
- إذ إنَّ الدِّين الذي ارتضاه الله ربُّ العالمين ليكون الدِّين الخاتم، هو بلا شكٍّ مناسب لكلِّ الأزمان ولكلِّ الأحوال، وإلاَّ ما جاز له أن يكون الدِّين الخاتم.
- الزَّعم بأنَّ خبر الآحاد لا يُعدُّ دينًا، ولا يَثْبُت به الدِّين، وأنَّ التواتر مُقتصِرٌ على السُّنة العملية المُتمثِّلة في العبادات فقط: في محاولةٍ من الحداثيين العرب لإنكار المكانة التشريعية للسُّنة؛ فزعموا أنَّ خبر الآحاد لا يُعدُّ دينًا، ولا يَثْبُت به الدِّين، وأنَّ (النظرية الأصولية الكلاسيكية التي تُثَبِّتُ السُّنةَ بوصفها الأصل الثاني للتشريع بدأت تَفقد الكثيرَ من تماسكها في الفكر الإسلامي المعاصر، وأبرز وجهٍ لهذا التصدع موقف الدارسين المُحدَثين من أخبار الآحاد)29.
- وتوسَّعوا في “شروط التواتر” فأضافوا لها ثلاثةَ شروط؛ وذلك بضرورة مطابقة “الخبر المنقول” للحس30، والعقل31، والوجدان32؛ لتصبح “شروط التواتر” أربعة، هي: (التطابق مع شهادة الحس، والعقل، والوجدان، وامتناع التواطؤ على الكذب)33.
- ثم أطَّروا المتواترَ في “السُّنة العملية” المُتمثِّلة في العبادات فقط، زاعمين أنَّ (العمدة في الدِّين هو القرآن، وسُنن الرسول المتواترة وهي السُّنن العملية؛ كصفة الصلاة والمناسك مثلًا.. وما عدا ذلك من أحاديث الآحاد التي هي غير قطعية الدلالة فهي محل اجتهاد)34.
- (وهذه الشروط إنما وُضِعتْ؛ ليُصار إلى نتيجةٍ مُؤدَّاها أن لا وجود للمتواتر نهائيًّا، وفي حال وجوده – وإنْ بصعوبة – فهو ليس إلاَّ السُّنة العملية المُتمثِّلة بالعبادات؛ من صلاةٍ وزكاةٍ وصومٍ وحج، وما سوى ذلك أخبار آحاد لا تُفيد علمًا، ولا تلزم اتباعًا)35.
- (ومن هنا فإنَّ منهج هذا الفريق من الحداثيين بقبول المتواتر فقط مع توسيع شروط التواتر ليصار إلى قبول السُّنة العملية من العبادات العملية فقط، ثم يأتي في مرحلة لاحقة ليقرأ العبادات نفسَها على أنها وسائل لتحقيق المعاني في نفس المؤمن، فهي غير مقصودة بهيئاتها التي مارسها الرسول صلى الله عليه وسلم.. ليصل إلى إقصاء السُّنة كليةً عن التشريع أو عن التأثير في حياة الناس؛ لقلة المتواتر ولأنَّ أخبار الآحاد هي الأعم الأغلب من السنة النبوية.
- وحتى مع قبوله للعبادات بهيئاتها وصورها التي هي عليها فإنَّ مقصد الحداثي ومبتغاه هو حصر الإسلام بهذه العبادات، وإبعاده عن ساحة العمل، وعن السياسة وإدارة حياة الناس… ليكون الدِّين حريةً فكريةً شخصيةً، يُمارِس الإنسانُ طقوسَه بينه وبين نفسه، بينما يعيش واقع حياته وَفق قيم المجتمع الذي يعيش فيه، مُلتزمًا بأنظمته مهما كانت مُخالِفةً للمعتقد الذي يحمله، بل يتعايش مع هذه الأنظمة مؤيِّدًا لها مُمارِسًا حياته وَفْقَها لا يخرج عنها)36.
يُتبع،،،
- انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 133). ↩︎
- انظر: الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 116)؛ إشكاليات العقل العربي، جورج طرابيشي (ص 65)؛ الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، نصر حامد أبو زيد (ص 53). ↩︎
- ما وراء تأسيس الأصول مساهمة في نزع أقنعة التقديس، (ص 87). ↩︎
- انظر: السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، (1/ 481)؛ السنة النبوية حجية وتدوينًا، (ص 112). ↩︎
- إعلام الموقعين، (1/ 7). ↩︎
- الأم، (7/ 273). ↩︎
- أحكام القرآن، للشافعي (1/ 28)؛ الرسالة، (ص 45). ↩︎
- الحداثة وموقفها من السنة، (ص 136). ↩︎
- جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 36). ↩︎
- المصدر نفسه، (ص 16). ↩︎
- المصدر نفسه، (ص 36). ↩︎
- دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع، (ص 183). ↩︎
- أضواء على السنة المحمدية، (ص 42-44). ↩︎
- دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع، (ص 232). ↩︎
- رواه مسلم، (2/ 1011)، (ح 6277). ↩︎
- الإسلام وأصول الحكم بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، (ص 69). ↩︎
- تفنيد دعوى حد الردة ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾، جمال البنا (ص 60). ↩︎
- الدين والدهماء والدم: العرب واستعصاء الحداثة، صقر أبو فخر (ص 25). نقلًا عن: مفاهيم قرآنية، محمد أحمد خلف الله، مجلة عالم المعرفة، الكويت، (عدد: 79)، (تموز 1984 م). ↩︎
- الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، (ص 157). ↩︎
- في نقد المثقف والسلطة والإرهاب، أيمن عبد الرسول (ص 224). ↩︎
- الثابت والمتحول بحث في الاتباع والإبداع عند العرب (الأصول)، (ص 142). ↩︎
- جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين، (ص 16). ↩︎
- أضواء على السنة المحمدية، (ص 36). ↩︎
- الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، (ص 119). ↩︎
- المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، جورج طرابيشي (ص 167). ↩︎
- الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، (ص 53). ↩︎
- انظر: الحداثة وموقفها من السنة، (ص 148). ↩︎
- نحو فقه جديد، (2/ 206). ↩︎
- الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، (ص 309). ↩︎
- (الحِس): هو ما يُشاهد ويُدرك. ↩︎
- (العقل): ليس هناك تعريف منضبط لمفهوم العقل؛ لعدم وجود عقل جمعي يُحْتَكم إليه ليكون مرجعًا. ↩︎
- (الوجدان): ليس هناك تعريف منضبط لمفهوم الوجدان؛ لأنه هائم المعنى، غائب عن الوضوح، فأيَّ وجدان يقصده الحداثيون؟ ↩︎
- التراث والتجديد من العقيدة إلى الثورة، د. حسن حنفي (1/ 369). ↩︎
- أضواء على السنة المحمدية، (ص 395). ↩︎
- الحداثة وموقفها من السنة، (ص 153). ↩︎
- المصدر نفسه، (ص 154). ↩︎